الخميس، 21 فبراير 2013

خطبة الجمعة : الاحتيال

جماعة المسلمين: قال ربنا عز وجل في محكم التنزيل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )، قال المفسر عبد الرحمن السعدي:  فلم يبق عدل ولا إحسان ولا صلة إلا أمر به في هذه الآية الكريمة، ولا فحشاء ومنكر متعلق بحقوق الله، ولا بغي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم إلا نهى عنه "
فشريعة الإسلام شريعة العدل والإحسان، جاءت بتعاليم تحفظ للإنسان دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله، وأحاطت تكلم المقاصد والضروريات بجملة من الحدود تضمن حمايتها وعدم التعرض لها، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حجة الوداع فقال : "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا "
والعبد العاقل إخواني في الله- يسعى إلى تحقيق تلكم المقاصد والغايات وتكميلها، إلا أنه قد يتعرض لما يخل بها دون أن ينتبه لذلك، بسبب اتباع طرق ووسائل خفية يهدف أصحابها للنيل من الإنسان، وهو ما يسمى بطرق الاحتيال والخديعة.
أيها المسلمون : إن الاحتيال على المسلمين ومخادعتهم للنيل من حقوقهم والتعرض لأذيتهم في دينهم ونفوسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم محرم. فروى مسلم في صحيحه عَنْ عِيَاضِ الْمُجَاشِعِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِى خُطْبَتِهِ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ :  وذكر منهم : وَالْخَائِنُ الَّذِى لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ »
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من أهل النار من يسعى بالحيلة والخديعة للاستيلاء على مال  أخيه المسلم، أو التعرض لأهله وعرضه.
وما يدل على تحريم الاحتيال على المسلم وخديعته ما رواه البخاري معلقا عن عبادة بن الصامت قال: قال صلى الله عليه وسلم: الخديعة في النار. وفي رواية : المكر والخديعة في النار "
كما أن الاحتيال والخديعة يحتوي على الغش والكذب وعدم الأمانة والظلم وخذلان المسلم لأخيه المسلم الذي وثق به، وهذه الأمور مما تنقص الإيمان، وتنافي الأخوة الإيمانية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ».
جماعة المسلمين: من أعظم الاحتيال والخديعة ما كان في أمور الدين والعقيدة، فيظهر هذا المحتال بصفة الداعية فيغش الناس في دينهم، بأن ينشر فيهم البدع وما يخالف الشرع باسم الدين، وقد حذرنا منهم الله سبحانه وتعالى في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فروى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها- قَالَتْ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)  قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ » .
قال الشوكاني رحمه الله : في تفسير قوله تعالى : (وابتغاء تأويله) أي يتعلقون بالمتشابه من الكتاب، فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلا على ما هم فيه من البدع المائلة عن الحق"
عباد الله: ومن الاحتيال المحرم الادعاء بالقدرة على الشفاء من الأمراض والمس والسحر ونحوها، فيظهر بمظهر الراقي الذي يرقي بالقرآن، وهو إنما يستعين بالجان والشياطين، فيسلب من الناس دينهم وأموالهم وعافيتهم ، وقد حذرنا منهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "  .
عباد الله : ومن الاحتيال والخديعة المحرمة ما يتعلق بأعراض المسلمين، كمن يكلم النساء بحجة أنه ينوي الزواج وفي حقيقة الأمر يريد أن يتلاعب بهن، أو يشترط أهل الزوجة عليه شروطا عند عقد الزواج فيوافق وهو ينوي أن لا يفي بها، ونبيا صلى الله عليه وسلم يقول: أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ "  وعن ميمون الكردي عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها، خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها، لقي الله يوم القيامة وهو زان "  


الخطبة الثانية : وإنَّ مِنَ المقاصدِ الكُبْرَى للتشريعِ الإسلامِيِّ حفْظَ أموالِ الناسِ، وتحريمَ أكْلِهَا بغيْرِ حَقٍّ، يقولُ اللهُ تعالَى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
بَلْ إنَّ اللهَ تعالى أمرَنَا بتَحَرِّي الكسبِ الطيِّبِ، والمالِ الحلالِ، ونَهانَا عَنِ اتباعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ : (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) ومن صور الاحتيال والخديعة في المال ما يجري في المزادات بأن يلجَأ بعضُ المحتالينَ إلَى الزِّيادةِ فِي ثَمَنِ سِلْعَةٍ معروضةٍ -بالاتفاق مع البائعِ- وهُوَ لاَ يُريدُ شراءَهَا، تغريراً بالمشترِي وخِداعاً لهُ، وهذَا هُوَ النَّجَشُ الذِي نَهَى النَّبِيُّ r عنْهُ، فقالَ: «وَلاَ تَنَاجَشُوا» ، وَقَالَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى رضي الله عنه: النَّاجِشُ آكِلُ رِباً خَائِنٌ، وَهوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لاَ يَحِلُّ .
ومِنْ صُورِ الاحتيالِ العبثُ بأطعمةِ الناسِ، وذلكَ بتغييرِ تواريخِ السِّلَعِ الْمُنْتَجَةِ أَوِ الغِشِّ فيهَا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ :«مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟». قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:«أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»
ومن صور الاحتيال في المال ما يفعله بعض المخادعين من استمالةِ قلوبِ الناسِ، بالظهورِ بِمظهَرِ الفقْرِ والإفلاسِ، أَوْ إيهامِهِمْ عَنْ طريقِ التهاتُفِ والاتصالِ، بربْحِ الجوائزِ والأموالِ، أَوْ إخبارِهِمْ بأنَّهُمْ مسحورُونَ، وأنَّ الْمُتَّصِلينَ عَلَى فَكِّ السِّحْرِ قادرُونَ، بِشرطِ تَحويلِ مبالغَ مُعيَّنَةٍ، فعلينَا أَنْ نَحذَرَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ حالٍ، وخاصَّةً المتسوِّلينَ أو الْمحتالينَ، الذينَ يتظاهرونَ بأنَّهُمْ مِنَ المساكينَ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّراً فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» .
ومن صور الاحتيال ما يقوم بع بعضُ الناسِ للحصولِ علَى القُروضِ، أَوْ للتَّهَرُّبِ مِنَ الوفاءِ المفروضِ، أَوْ يقومُ بشراءِ الشَّهاداتِ العلميةِ، أو تزويرِ شهاداتِ الخبرةِ المهنيةِ، للبحْثِ عَنْ فُرصةِ عملٍ أَوْ وظيفةٍ مَرْضِيَّةٍ، أو يقومُ –بعدَ الحصولِ على الوظيفةِ- بسرقَةِ عملِ زميلِهِ ليدَّعِيَ أَنَّهُ مِنْ عملِهِ،فهذَا كلُّهُ مِنَ الكذبِ والزورِ والاحتيالِ، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَىْ زُورٍ»
ومِنْ صُوَرِ الاحتيال لأكلِ المالِ الحرام: ادَّعاءُ الموظفِ بأنَّهُ مريضٌ؛ ليحصُلَ علَى إجازةٍ مَرَضِيَّةٍ، أَوِ احتيالُهُ للتَّهَرُّبِ مِنَ الدَّوامِ، وكلُّ ذلكَ من صورِ أكلِ المال الحرام، الذي يستلمُهُ البعضُ في نهايةِ الشَّهر دونَ استحقاقٍ له.
جماعة المسلمين : اعلمُوا أنَّ باب التَّوبةِ مفتوح، إلى أن تبلغَ الرّوحُ الحلقومَ، أو تطلُعَ الشمسُ من مَغْرِبِها، فبادروا عباد الله للتوبةِ النَّصوح، قبلَ حلولِ الأجَل، وانقطاعِ العمل، فمن احتال على أخيه المسلم فاقتطع شيئا من حقه فليبادر بالتوبة وإن من شروط صحة التوبة أن يبادِرَ التائب إلى إرجاعِ الحقِّ إلى صاحبه، فإنْ حاولَ بكلِّ الطُّرقِ ولم يستطعْ الوصولَ إلى صاحبهِ –لطولِ العهدِ أو غيرِ ذلك من الأسباب المانعة- فعليه أن يسارِعَ إلى التخلُّصِ منه، وذلك بصرفهِ في وجوه البرِّ بنيّةِ التخلُّصِ من المالِ الحرام.
فاللهَ اللهَ عبادَ الله: في أَنْفُسِكُم وأهْلِيكُم وعِيالِكُم؛ فإنَّ المالَ الحرامَ سببٌ للخُسرانِ وسوءِ العاقِبَة، فاحذروا إطعامَ أنفسِكُمْ أو أهليكُم وعيالِكُم من المالِ الحرام، قال رسولُ اللهِ rصلى الله عليه وسلم: «إنَّهُ لا يربو لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ إلا كانتِ النَّارُ أَوْلى بِهِ»، وقال r: «لا يدخلُ الجنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ بالحرام»



هناك تعليق واحد: