الجمعة، 17 يونيو 2016

خطبة الجمعة : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين : من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم التي تحتوي توجيهات نافعة للمؤمن ما رواه أبو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه – عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ».

يبين صلوات الله وسلامه عليه جانبا مهما من جوانب شخصية المؤمن وهو القوة، فالمؤمنون يتفاوتون في القوة، وعلى قدر هذا التفاوت يتفاوتون في الدرجة والمنزلة.

والقوة في قوله صلى الله عليه وسلم " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" تشمل أولا قوة الإيمان والتمسك بالإسلام وشرائعه، والضعف يشمل كذلك ضعف الإيمان والتمسك بشرائع الإسلام. 

ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالذنوب والسيئات، فمن زاد إيمانه بالله، وزاد تمسكه بخصاله وشعبه كان أحب إلى الله سبحانه وتعالى ممن نقص إيمانه وبدأ يتهاون في شعب الإيمان وشرائع الإسلام.

وقد أمر الله بعض أنبياءه ورسله بأن يتمسكوا بهذا الدين بقوة قال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " قال ابن كثير رحمه الله : "{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أَيْ: بِعَزْمٍ عَلَى الطَّاعَةِ " وقال سبحانه آمرا بني إسرائيل : "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" قال مجاهد-رحمه الله- :" بِقُوَّةٍ: بِعَمَلٍ بِمَا فِيهِ " .

ومن القوة الإيمانية القوة في دراسة العقيدة الصحيحة  وتفهمها والعمل بمقتضياتها والرد على المخالفين فيها، قال تعالى لنبيه يحيى عليه الصلاة والسلام: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا " قال المفسر عبد الرحمن السعدي رحمه الله :  فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة، فامتثل أمر ربه، وأقبل على الكتاب، فحفظه وفهمه، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} ".

أيها الصائمون: ومن القوة المحمودة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" القوة في الحق والأخذ به، وترك الباطل وتجنبه، رغم المغريات والعوائق وربما الظروف القاسيات ، فيصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه الشرعية دون تهور ولا طيش ولا عواطف جياشة، بل هدفه الحق والعمل به والدعوة إليه، بغض النظر عن كثرة أتباع الباطل، قال تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم : "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا "
فاتباع الهوى سبب للضلال والانحراف عن شريعة الله وصراطه المستقيم، قال تعالى :"وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "   

ومن اتباع الحق ورد الباطل ترك العادات والتقاليد التي تخالف شريعة الإسلام وأحكامه، وترك الأفكار التي تبين ضلالها و التي ينادي بها أرباب الفكر المنحرف ولو ذاع صيتهم وعلت مناصبهم، روى الترمذي عن عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ ».
عباد الله : ومن القوة المحمودة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" القوة في ضبط انفعالات النفس ورغابتها، فالنفس قد تأمر بالسوء، وترغب في الشهوات وتميل إليها، فمن قويت عزيمته جمحها ومنعها وصرفها إلى ما فيه منفعتها، ومن ضعفت نفسه وقع في شراك أهواء نفسه وشهواتها فيهلك، قال تعالى :وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى".

ومن القوة في ضبط النفس كظم غيظها، وتنفيس غضبها، والعفو عمن ظلمك مع مقدرتك على الانتقام منه، قال تعالى :" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "  ، وقال صلى الله عليه وسلم :"لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ». وقال كذلك : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ "

إخوة الإيمان : ومن القوة المحمودة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ" القوة العسكرية التي ترهب العدو وتجعل الدولة المسلمة مهيبة الجانب كما قال تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ "

وأنواع القوة المحمودة الداخلة في الحديث كثيرة جدا، ثم قال صلى الله عليه وسلم " وفي كل خير" ليبين فضل الإيمان بالله، وأنه من أسباب محبة الله للعبد وخيريته عنده، ولكن يتفاوت الناس في هذه المحبة وهذه الخيرية على حسب عملهم واعتقادهم .


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : ثم قال صلى الله عليه وسلم موجها ومعلما : " احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ" فهذه وصية جامعة نافعة، محتوية على سعادة الدنيا والآخرة، والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية، والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها.

وإذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجوء إلى الله ; والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال، وتتم له النتائج والثمرات الطيبة في أمر الدين وأمر الدنيا

ثم ختم صلى الله عليه وسلم وصيته بقوله : " وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " وفي ذلك حض على الرضا بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع من الأمور.

 فإذا أصاب العبد ما يكرهه، فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه ; فإن " لو " في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن المضعف للقلب. 

عباد الله : في هذه الوصايا التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم  أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة، وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها، والرضى عنه بما فات، ولم يحصل منها.

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم الدين إلا بهما، بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله «احرص على ما ينفعك» أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص عليه، نية وهمة، فعلا وتدبيرا.

وقوله: «واستعن بالله» إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك.

هناك 3 تعليقات: