الجمعة، 3 يونيو 2016

خطبة الجمعة : نعمة إدراك شهر رمضان المبارك

الخطبة الأولى: أيها المسلمون خلق الله الخلق وأمرهم بعبادته وحده دون سواه فقال سبحانه " يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "  ، ووعدهم على عبادتهم وتوحيدهم له بالجنة فقال:"وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"، وأمرهم بالمسارعة في فعل الخيرات للتزود ليوم القيامة فقال سبحانه:"فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" ، ومن رحمة الله بعباده أن هيأ لهم مواسم تكثر فيها الخيرات وتضاعف فيها الحسنات، وقد جاء في الأثر : " افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده " ، ومن هذه المواسم موسم شهر رمضان الذي سيحل علينا بعد أيام قلائل.

إخوة الإيمان: إن إدراك المسلم لشهر رمضان فيصومه متقربا لله تعالى، مغتنما أيامه ولياليه، من أكبر النعم التي يمنها الله عليه، لأنه موسم فضائله متنوعة، وعباداته سهلة يسيرة، ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر به أصحابه ويبين فضائله لتعلو هممهم، ويتسابقوا في فعل الخيرات، ويتنافسوا في القربات، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ». 

ما أعظمها من فضائل، وما أغنمها من فرص، أبواب السماء مفتحة لكم أيها الصائمون، وتغلق فيه أبواب النيران، ويعان فيه المسلم على الطاعة إذ تحبس مردة الشياطين فيخف شر العدو عليك أيها الصائم، ثم يكافؤ المؤمن الحريص والمشمر المسابق بليلة واحدة العبادة فيها خير من عبادة في ألف شهر إنها ليلة القدر.

ومن عجيب القصص والأخبار، مما يدلنا على أن إدراك رمضان من الفرص الكبار، ما جاء عن طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخِّرَ الآخَرُ بَعْدَ الْمَقْتُولِ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ. قَالَ طَلْحَةُ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فِي الْمَنَامِ، فَرَأَيْتُ الآخَرَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَوَّلِ، فَأَصْبَحْتُ فَحَدَّثْتُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَبَلَغْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى بَعْدَهُ سِتَّة آلَاف رَكْعَة وَكَذَا كَذَا رَكْعَة ".
فتأملوا يا رعاكم الله : أسلما جميعا، ومات أحدهما شهيدا، ومات الثاني بعده بسنة، ولكن فضل عليه بمزيد عمل عمله، ومنه إدراكه لشهر رمضان. 

فهذه النعمة بإدراك شهر رمضان تستوجبُ الشكرَ للباري، وتقتضي اغتنام هذا الشهر، بما يكونُ سبباً للفوزِ بدارِ القرارِ، والنجاةِ من النار، فمن حرم فضل هذا الشهر فهو المحروم ، وأي خسارةٍ أعظمُ من أن يدخلَ المرءُ فيمن دعا عليهم جبريلُ عليهِ السلام ، وأمنَّ على دعائهِ نبيُّ الأنامِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال جبريل : ((من أدركَ شهرَ رمضانَ فلم يغفر له، فدخلَ النارَ فأبعدهُ الله قل: آمين، فقلت: آمين))

أيها المؤمنون : من الفضائل العظيمة لشهر رمضان أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن فقال تعالى " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ". وقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الذِي كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَنْزِلُ فِيهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فصح عَنْ وَاثِلَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاث عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ "

ومن فضائله العظيمة قوله صلى الله عليه وسلم " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ"

ومن فضائل هذا الشهر أنه مكفر للذنوب والخطايا وسبب للمغفرة قال صلى الله عليه وسلم" من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" 

قال الخطابي رحمه الله :قوله " إيمانا واحتسابا " أي نية وعزيمة وهو أن يصومَهَ على التصديقِ والرغبةِ في ثوابهِ طيبةً بهِ نفسهُ غيرَ كارهٍ له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ، لكن يغتنم طول أيامه لعظم ثوابه "

ومن فضائل هذا الشهر المبارك ما رواه البزار بسند صحيح عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال :  جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا قال من الصديقين والشهداء" 

فما أعظمه من أجر ، فمن جمع هذه العبادات اليسيرة كان من الصديقين والشهداء الذين يكونون مع أفضل الخلق قال تعالى : " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا" 

فاغتموا رحمكم الله هذا الشهر بالطاعات والعبادات، فإنكم لا تدرون هل تدركونه في مستقبل أعماركم أم يضمكم التراب، وتصيرون إلى أعمالكم . 



الخطبة الثانية : يقول الله جل وعلا :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا  كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)  فالصيامَ من أكبرِ أسبابِ تحقيق التقوى؛ لأن فيهِ امتثالاً لأمرِ اللهِ واجتناباً لنهيه ، فالصائمَ يتركُ ما أحل الله له من الأكلِ والشربِ والجماعِ ونحوها التي تميلُ إليها نفسهُ متقرباً بذلك إلى الله راجياً بتركها ثوابهُ ، فهذا من التقوى ،  كما أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه وهذا فيه تحقيق لدرجة الإحسان وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . 

والصائم ليله ونهاره في عبادة ، فقد ترك شهواته لله بالنهار تقربا إليه وطاعة له ، وبادر إليها في الليل تقربا إليه وطاعة فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع في الحالين .

قال أهل العلم : المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام ، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفِّيَ أجره بغير حساب"

أيها المؤمنون : إن عبادة الصيام التي تتقربون بها إلى الله في شهر رمضان من أجلِّ العبادات وأشرفها، فقد فضَّلهُ سبحانه على كثيرٍ من القرباتِ والطاعاتِ، ورفعَ منزلتهُ وميّزهُ على أنواعِ العباداتِ بقوله في الحديثِ القدسي ،" كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ  " وفي رواية : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا , إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ , إِلَى مَا شَاءَ اللهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي , وَأَنَا أَجْزِي بِهِ  يَدَعُ طَعَامَهُ , وَشَرَابَهُ , وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي "  . قال ابن رجب رحمه الله : " الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة بغير عدد ، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)ا.هـ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بشهر الصبر ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر "

والصوم له فضائل جمة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" 
أي رائحة فم الصائم الكريهة بسبب خلو المعدة من الطعام بالصيام ، فهي أطيب عند الله تعالى من رائحة المسك الزكية، لأنها ناشئة عن طاعة لله وابتغاء مرظاته. 

قال ابن حجر: ويؤخذ من قوله (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) أنه أعظم من دم الشهادة، لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب.." 

وقوله صلى الله عليه وسلم(وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ) فالفرحة الأولى : في الدنيا وتكون في موضعين، الأول عند فطره بعد غروب الشمس لأن النفس مجبولة على الفرح إذا أبيح لها ما منعت منه ، والثاني فرح عند نهاية الشهر . بإتمام العبادة ورجاء أن يوفيه ربه أجره .
أما الفرح الثاني فهو عند لقاء الصائم ربه سبحانه وتعالى ، يفرح لأنه يقال له "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ  " ورد عن مجاهد قال: نزلت في الصائمين، يفرح الصائمون لأن ريحهم تفوح مسكا ، ولأن لهم بابا في الجنة لا يدخل منه غيرهم قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فِى الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ » يفرحون لأن جزاؤهم من جنس عملهم، فكما أنهم أجاعوا أنفسهم في الدنيا لنيل مرضاة الله ، فكذلك يجازيهم الله بأن يشبعهم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: فإن أطولكم جوعا يوم القيامة أكثركم شبعا في دار الدنيا " 

فافرحوا –رحمكم الله- بإدراككم شهر رمضان، واسألوا الله سبحانه وتعالى أن يعينكم على صيامه وقيامه، وانشغلوا فيه بأداء العبادات، فإنه شهر العبادة، فَاللَّهُمَّ سَلِّمْنَا إِلَى رَمَضَانَ, وَسَلِّمْ لَنَا رَمَضَانَ, وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلاً،واجعلنا فيه من عتقائك مِنَ النِّيرَانِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق