الجمعة، 14 يونيو 2013

خطبة: نعمة الأمن والاستقرار

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين ، اعلموا رحمكم الله أن من أعظم نعم الله التي امتن بها على عباده نعمة الأمن والاستقرار، ولذلك سألها إبراهيم عليه السلام ربه فقال: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات)  البقرة: ١٢٦   ، فبدأ بطلب الأمن قبل طلب الرزق مما يدل على أنه من أعظم الخيرات، وأنه سبب لاستجلاب الأرزاق والعطيات.

بل قد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الأمن والاستقرار مع قلة الرزق من أعظم الملك فقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِى جَسَدِهِ آمِنًا فِى سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ). 

عباد الله : ولتحقيق هذه النعمة فلا بد من وجود أسبابها، وأهم أسباب تحققها توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، قال تعالى : (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)الأنعام: ٨١ – ٨٢ ، والظلم الوارد في الآية هو الشرك بالله ، فروى البخاري في صحيحه عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْد ِاللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ( يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )  

وتوحيد الله تعالى يتحقق بصرف أعمال القلوب والجوارح لله تعالى، قال سبحانه ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)  ، فدعاؤك ورجاؤك وخوفك لله تعالى، تصلي وتصوم وتحج وتذبح له، ولا تلجأ إلا إليه، ولا تستغيث بغيره، ولو كان هذا الغير ملكا مقربا، أو نبيا مرسلا، أو وليا صالحا، فإنهم عباد مثلك يرجون الله كما ترجوه ويعبدونه كما تعبده، لا يملكون لأنفسهم جلب نفع، ولا دفع ضر، قال سبحانه (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) الأعراف: ١٩٤ .
وبتحقيق التوحيد الخالص لله تعالى يتحقق للمسلمين ما وعدهم الله به في قوله(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)  النور: ٥٥، ثم بين الشرط الذي بتحققه تتحق الوعود فقال : (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . 

أيها المسلمون: ومن أسباب تحقق الأمن والاستقرار في المجتمعات لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فبذلك تتوحد الصفوف، وتجتمع القلوب، وينتشر الخير، ويُنتصر على الشر.
وقد بين نبينا صلى الله عليه وسلم المرض العضال الذي سيصيب هذه الأمة من بعده وهو التفرق، وذلك في أحاديث شتى، فقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) وقال صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ أُمَّتِى سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِى النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً ) .
فهذا هو الداء وهو التفرق وحصول الفتن والتنازع، وهو لابد متحقق ، ولكن النبي صلى الله عليه  وسلم قد بين العلاج الشافي من أمثال هذه المهلكات فقال صلى الله عليه وسلم: 
مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا " وقال في الحديث الثاني: 
(وَإِنَّ أُمَّتِى سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِى النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً وَهِىَ الْجَمَاعَةُ ) وفي رواية (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ، فأرشد صلى الله عليه وسلم عند حصول التفرق والفتن، الذي يؤدي إلى الخوف وانعدام الأمن بالتمسك بسنته وهديه، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم. 
وهذا الطريق هو الذي سلكه الصحابة رضوان الله عليهم من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي اشتهر أمره بالظلم والجور وسفك الدماء، وقد أدركه عدد من الصحابة منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فلم ينازعه في سلطانه، ولم يمتنع من طاعته في المعروف. 

جماعة المسلمين : من أسباب استمرار الأمن والاستقرار في المجتمع، شكر الله تعالى على هذه النعمة، فبالشكر تدوم النعم وتزيد، وبكفرها تنقص وتضمحل، قال تعالى (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) إبراهيم: ٧ ، فالشكر للمنعم جل في علاه على نعمة الأمن التي نعيشها في بلادنا، ومن تمام شكرها أن نعمل بطاعته، وأن نتجنب معصيته. 
ثم الشكر لمن لولاهم الله علينا من الحكام الذين سعوا جاهدين إلى تحقيق الأمن والاستقرار لجميع من على هذه الأرض، ويتحقق الشكر لهم بالسمع والطاعة لهم بالمعروف، والدعاء لهم بالصلاح والإعانة، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ "  
وفقنا الله لاتباع كتابه ولزوم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما ، والله أعلم.

الخطبة الثانية : أيها المسلمون: اعلموا رحمكم الله أن من أعظم ما يهدد صرح الأمن والاستقرار في المجتمعات الكفر والشرك بالله تعالى، وقد بين الله ذلك بأمثلة من غابر التاريخ، وأخبار الماضين، فأهل سبأ أنعم الله عليهم بوافر النعم، وأسبغ عليهم الأمن والاستقرار، فكفروا بنعمة الله، فبدل نعمة الأمن خوفا، والرزق حرمانا، فقال سبحانه مبينا السبب: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) 
وها هي مكة التي قد شرفها الله ببناء بيته فيها، يقول الله تعالى (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) أمن واستقرار ورزق حسن، فبماذا قابلوا ذلك قال تعالى : (  فكفرت بأنعم الله) ، فكان الجزاء (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)  فألبسهم الله لباس الجوع الذي هو ضد الرغد ، والخوف الذي هو ضد الأمن ، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم الله على نعمه.

عباد الله : ومن أسباب ذهاب الأمن وضياعه من المجتمع انتشار الذنوب والمعاصي والمجاهرة بها، وتأملوا هذا الحديث النبوي الذي بين فيه صلى الله عليه وسلم أثر الذنوب وانتشارها على المجتمعات واسقرارها، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " 

ومن أسباب زوال نعمة الأمن والاستقرار في المجتمعات ما نشاهده على أرض الواقع من الثورات والخروج على السلطان، بحجة المطالبة بالحريات ومشاركة الشعوب في الحكم والرقابة على المال العام، فقد أظهر الواقع كذب هذه الشعارات، وأنها إنما أريد بها تحقيق أهداف حزبية، ومآرب خاصة لبعض الجماعات تحت ستار الدين. 
وهي – أعني هذه الثورات- مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الآمر بالصبر على جور السلاطين وظلمهم واستئثارهم بالدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " رواه البخاري  ، وهذا الصبر مستمر إلى يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستلقون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى على الحوض) رواه مسلم
قال النووي: فيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالما عسوفا، فيعطى حقه من الطاعة ولا يخرج عليه، ولا يخلع بل يتضرع إلى الله في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه" 
ومن رأى الواقع وما حصل فيه من سفك للدماء هتك للأعراض وتخريب للديار بسبب منازعة أهل السلطان سلطانهم تيقن صدق الحكم، وعلم مقصد الشريعة في تحقيق الأمن والاستقرار وحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال من أن تنتهك. 
ولا عبرة لدى المسلم العاقل بكلام دعاة الضلالة الذين يزينون هذه الثورات ويلبسونها ثوب التدين فإنهم دعاة فتنة، وإلا فإن العلماء قديما وحديثا يحذرون من الفتن ومن دعاتها 
 فالزموا جماعة المسلمين، واسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، واهتموا بخاصة أمركم لعلكم أن تفلحوا في الدنيا والآخرة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق