الخميس، 14 نوفمبر 2013

فضل العلم والقراءة

الخطبة الأولى : اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله سبحانه مدح العلم وأهله وحث عباده على طلبه والتزود منه، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، قال الإمام أحمد رحمه الله ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته قالوا : كيف ذلك ، قال ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره )، ولأجل ذلك جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد منه فقال تعالى : "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" قال ابن القيم " وكفى بهذا شرفا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه" ، وجعل الله الرفعة لطالب العلم في الدارين فقال سبحانه : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " وهذه الرفعة في الدنيا بسمو المنزلة وعلو الشأن بين الناس ورفعة الآخرة في درجات الجنة، وروى أحمد ومسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى. فقَالَ: وَمَا ابْنُ أَبْزَى؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا – وهو العبد المعتق-. فَقَالَ عُمَرُ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! – مستنكرا- فَقَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: " إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ " ، ومما ورد من الأخبار في رفعة العالم على غيره في الدنيا ما ذُكر في كتاب سير أعلام النبلاء أنه قَدِمَ الرَّشِيْدُ الرَّقة، فَانْجَفَلَ النَّاسُ خَلْفَ ابْنِ المُبَارَكِ، وَتَقَطَّعَتِ النِّعَالُ، وَارتَفَعَتِ الغَبَرَةُ، فَأَشرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ مِنْ بُرْجٍ مِنْ قَصْرِ الخَشَبِ، فَقَالَتْ: مَا هَذَا? قَالُوا: عَالِمٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَدِمَ. قَالَتْ: هَذَا -وَاللهِ- المُلْكُ، لاَ مُلْكَ هَارُوْنَ الَّذِي لاَ يَجْمَعُ النَّاسَ إِلاَّ بِشُرَط وَأَعْوَانٍ.

وهذا العلم – إخواني في الله- لا يتحصل إلا بطلبه وتعلمه وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " ففي طلب العلم شرف كبير وأجر عظيم قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ" ، وهذا نبي الله موسى عليه السلام لم يمنعه مقامه في النبوة والرسالة من طلب العلم ، ففي الصحيحين قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ " قَالَ مُوسَى: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ ... " فرحل إليه ولما لقيه قال له في أدب : " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا "  ، قال ابن عباس رضي الله عنها: لو كان أحد يكتفي من العلم لاكتفى منه موسى عليه السلام لما قال : " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا "

ومن طرق طلب العلم وتحصيله القراءة من الكتب، فالقراءةَ هيَ الطريقُ الموصلةُ إلَى اكتسابِ العُلُومِ، والتزوُّدِ مِنَ المعارفِ، وقَدْ حازَتْ فِي الإسلامِ منازلَ الشرَفِ العظيمةَ، ونَالَتْ مَراتِبَ الفضْلِ الجليلةَ، فكانَ الأمْرُ بالقراءةِ هوَ البدايةُ لرسالةِ الإسلامِ، والكلمةُ الأُولَى التِي نزَلَ بِهَا القرآنُ الكريمُ، قالَ تعالَى : "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"
وأعظم أنواع القراءة النافعة تلاوةُ آيات القرآن وتدبُّرُها؛ فإذَا قرأَ المسلمُ القرآنَ الكريمَ مُخْلِصاً في ذلك لله تعالى، حظِيَ بالثوابِ العظيمِ، وارتقَتْ منزلتُهُ فِي جناتِ النعيمِ، قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا). وقد أنثى الله عز وجل في كتابه على من يتلو كتاب الله عز وجل ووعدهم بالأجر العظيم فقال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "

والمسلم لا يمل ولا يشبع من تلاوة كتاب ربه سبحانه، لأنه يهديه للتي هي أقوم، وبه حياة قلبه، ونجاته في الدارين، قال ابن القيم: "فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية الفاسدة التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة )

وأفضل التلاوة ما رافقها تدبر وتفكر في المعاني، قال تعالى : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" ، قال ابن القيم في بيان فضيلة القراءة بتدبر: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ...، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب"
ومما يعين على التدبر للمعاني قراءة كتب تفسير القرآن، فهي تكشف المعاني، وتجلي المقاصد الربانية، في آياته ومعانيه، وتطلع القارئ على فوائد القصص القرآنية، ومن أفضل كتب التفسير التي ينصح بها المسلم كتاب : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير.
فأقبلوا على قراءة كتاب ربكم، وتعلموا معانيه، تكونوا من أهل الخير والفلاح في الدارين.
 

الخطبة الثانية : عباد الله العلم فضل من الله على العبد يؤتيه من شاء من عباده قال تعالى : " وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا " وقال صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" ، والعالم العابد خير وأحب إلى الله من العابد الجاهل قال صلى الله عليه وسلم: " وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ " ، وهذا الفضل للعالم إنما كان بمعرفته لربه، وهذا يتم من خلال العلم بأسماء الله وصفاته، فيقرأ العبد كتب الاعتقاد الصحيحة المبنية على الدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح رحمهم الله.

ومما يعين العبد على العبادة الصحيحة المقبولة أن يقرأ كتب السنة وشرحها كالصحيحين وكتب السنن والمسانيد ليتعرف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة، ويعلم أقواله وأفعاله وتقريراته فيعمل بها ، وعلى المسلم أن يهتم بكتب الفقه فيطلع على أحكام العبادات من الأركان والشروط والواجبات والمستحبات، ويعرف مبطلات العبادة، وأسباب الإعادة، وهذا لا يتحصل للمسلم إلا بقراءة كتب الفقه المعنية بذلك .

كما يعتني المسلم بكتب السيرة النبوية ليعرف حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه وغزواته، ومن الكتب المختصرات في السيرة كتاب الفصول في سير الرسول لابن كثير، وكتاب الرحيق المختوم.

كما يهتم المسلم بقراءة كتب السلف رحمهم الله من القرون المتقدمة ففيها علم غزير، قال ابن الجوزي : وعليكُم بملاحظةِ سِيَرِ السلفِ ومُطالعةِ تصانيفِهِم وأخبارِهِم، فالاستكثارُ من مطالعةِ كُتُبِهِم رؤيةٌ لهم"

أخي المسلم: اعتن بأبنائك في مجال القراءة واختر لهم من الكتب ما يناسب مستواهم وأعمارهم، وتفقدهم في ذلك .

وليحذر المسلم من قراءة كتب الأفكار المنحرفة والآراء الضالة لأنها تضر ولا تنفع، ككتب أهل البدع والانحراف في الشريعة، قال ابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية: " وَيَحْرُم النَّظَر فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الضَّلَال وَالْوُقُوع فِي الشَّكِّ وَالشُّبْهَة، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْمَنْع مِنْ النَّظَر فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَام وَالْبِدَع الْمُضِلَّة وَقِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا"
 وكذلك يحذر المسلم من الكتب التي تحتوي تكفير المسلمين والدعوة إلى تفريق صفهم، والكتب الحزبية التي تقعد للأحزاب،  وكذلك المجلات التي تحتوي على الصور الخليعة وأخبار أهل الفسق والمجون.

إخواني في الله : ومما يعين على القراءة بمختلف أنواعها في زماننا الأجهزة الذكية التي انتشرت بين الناس، حتى قلَّ من يخلو جيبه من إحداها، فهي تحتوي على برامج للقراءة يمكن للمسلم أن يستفيد منها .


واسأل أخي المسلم من تثق فيه من العلماء وطلبة العلم عن الكتب المفيدة النافعة، وطريقة التدرج في القراءة، وإذ أشكل وصعب عليك شيء فارجع إلى أهل الاختصاص كما قال تعالى : "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"  .

فاغرِسُوا عبادَ اللهِ حُبَّ القراءةِ النافعةِ فِي أبنائِكُمْ، وكونُوا فِي ذلكَ الأُسوةَ الحسنةَ لَهُمْ، وخَصِّصُوا للقراءةِ نَصيباً مِنْ أوقاتِكُمْ، واجعَلُوا للكُتُبِ المفيدةِ قيمةً فِي بُيُوتِكُمْ، ووطِّنُوا أنفُسَكُمْ علَى حُبِّهَا واحترامِهَا ومُطالعَتِهَا، فبِالقراءةِ يزدادُ العلمُ، ويتغَذَّى العقلُ، ويحيَا القلبُ، وتسعَدُ الجوارحُ، وتشمَخُ الأوطانُ، وتعْلُو الراياتُ .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق