الجمعة، 10 أبريل 2015

خطبة جمعة : السحر

الخطبة الأولى: جماعة المسلمين لَقَدْ شَرَعَ الإِسْلاَمُ كُلَّ مَا يُحَقِّقُ لِلْعِبَادِ مَصَالِحَهُمْ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِمْ وَآجِلِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى إِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، وَاسْتِثْمَارِ فِكْرِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَضُرُّهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»، وَمِمَّا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ السِّحْرُ وَالْكِهَانَةُ، وَالتَّنْجِيمُ وَالشَّعْوَذَةُ .

السِّحر داءٌ خطير وشرّ مستطير، له حقيقة خفيّةٌ وضرَرٌ محقَّق، يهدِم الدينَ، ويتلِف الجسدَ، ويخرب البيوتَ، ويقطَع الأرحام، لذا فقد اتَّفقتِ الشرائع السماويّة على تحرميه، وسماه الله كفرًا فقال سبحانه "وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ" ، وحذَّر منه في القرآنِ ولم يجعل لصاحبة في الآخرةِ نصيبًا ولا حظًّا فقال سبحانه : " وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "

السّحرُ له حقيقة فهو عزائمُ ورُقى وعُقَدٌ ونَفث وعَمَل يؤثَّر به في القلوب والأبدان والمشاعِرِ والطبائع، هو بضاعة الشيطان، يلجأ إليه ضِعاف النفوس وضِعاف الإيمان؛ جلبًا لحظٍّ موهوم أو دفعًا لنَحس وضر مزعوم، طمعًا في مالٍ علاج لمرض أو بَغيًا على عباد الله.

خطره عظيم على الأفراد والمجتمعات، إذ يعمل على تفكُّك الأسَر وهدم العلاقاتِ الاجتماعيّة وتقطيع أواصِر القُربى وإحلال الحقد محلَّ المحبّة والخوف مكانَ الطمأنينة، هو داءٌ يزرَع الاضطرابَ وينزع الثقةَ، بل إنه صورةٌ من صوَر ضَعف العقول ونقصِ التفكير، ناهيكم بضعفِ الديانة وخلَل العقيدة.

لذلك عده النبي صلى الله عليه وسلم من المهلكات الموبقات التي تهلك وتوبق صاحبها في النار ، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، .."

أمَّا الساحر فمُفسِد فاجِرٌ، قد نزِعَت من قلبه الرحمة، واستَأثَر للذِّلَّة، وباع نفسَه للشيطان، وأوبَقَ دنياه وآخرِتَه، لا تجِد ساحِرًا سعيدًا وإن أوهَمَ الناسَ بجلب السعادةِ لهم، ولا تجِد ساحرًا غنيًّا وإن خدَعَهم بدفع الفقر عنهم، والشّيطان يَؤزُّ السّاحرَ أزًّا ليَعملَ السّحرَ أذيّةً لعبادِ الله، قال جلّ وعلا: "فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ" وأخبر سبحانه أنه عملهم وعلمهم كله ضرر لا نفع فيه فقال جل وعلا"وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ" بل أخبر سبحانه عن عدم فلاح الساحر أبدا فقال : "وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ" وقال : "إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى" فأينما توجه وأينما ذهب وأينما حلّ فالفلاح مفارقه ، هو دائماً في خسران، فمن كان حاله فكيف يرجى منه تفريج هم أو دفع ضر أو علاج مرض.  

 ولأجلِ عظيمِ فسادِ السّاحر وكبيرِ جُرمِه وتعَدِّ شرِّه كان حكمُه القتل؛ لأنَّه من أعظم المفسدين في الأرض، وقد كتبَ عمر بن الخطاب إلى ولاتِه أن اقتُلوا كلَّ ساحرٍ وساحرة. وفي الترمذيِّ عن جندُب رضي الله عنه قال : ((حدُّ السِّاحِرِ ضربَةٌ بالسيف)) أو ((ضَربُه بالسّيف))،  ونصَّ بعضُهم على عدم قبولِ توبتِه. إنّه شأن ليس باليسير، يقول الذهبيّ رحمه الله: "فترى خلقًا كثيرًا من الضُلاَّل يدخلون في السحر، ويظنّون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر". قال الحسن البصري رحمه الله : " من سحر فقد أشرك " ، وقال ابن جريج رحمه الله : " لا يجترئ على السحر إلا الكافر ".

جماعة المسلمين : إن  إِتْيَانَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ آفَةٌ خَطِيرَةٌ، وَدَاءٌ عَظِيمٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ خِدَاعٍ زَائِلٍ، وَأَكْلٍ لأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ طَرِيقٌ لِلشَّرِّ، يَهْدِمُ الْبُيُوتَ، وَيَقْطَعُ الأَوَاصِرَ، وَيُسَبِّبُ الْعَدَاوَاتِ، وَيُضْعِفُ الإِيمَانَ، وَيَنْشُرُ الدَّجَلَ وَالْخُرَافَاتِ، وَمِنَ الْمُمَارَسَاتِ الْخَاطِئَةِ فِي هَذَا الْجَانِبِ الذَّهَابُ إِلَى هَؤُلاَءِ السَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ لِحَلِّ الْمُشْكِلاَتِ، أَوِ الْبَحْثِ عَنْ الْمَفْقُودَاتِ، أَوْ لِلإِضْرَارِ بِالآخِرِينَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ أَوْ صَدِيقَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ، فَإِنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ عَظِيمٌ، وَقَدْ تَبَرَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يَأْتِي السَّحَرَةَ وَالْعَرَّافِينَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :«لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ »  وروى مسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم  قال: من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة" أَيْ: لاَ ثَوَابَ لَهُ فِيهَا ، هذا لمجرد إتيانِ العرّاف، أما من صدَّقه فإنه أعظمُ خسارة، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" والعرَّافُ هو الذي يدَّعي معرفةَ الأمور بمقدِّمات يستدلّ بها، كطلبه معرفةَ اسمِ الأمّ ونحو ذلك، ويدَّعي معرفة الأشياء الغائبة، والكاهنُ هو الذي يخبِر عن المغيَّبات في المستقبل. ومن هؤلاء المنجِّم والرَّمَّال ونحوهم ممَّن يدَّعي معرفةَ الأشياء الغائبة أو معرفةَ المستقبل. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، فَلاَ مَطْمَعَ لأَحَدٍ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى:( قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ).

مِمَّا يَلْحَقُ بِالسِّحْرِ التَّنْجِيمُ وَالاِسْتِدْلاَلُ بِالطَّوَالِعِ وَالْبُرُوجِ عَلَى مَا يُقَدَّرُ لِلنَّاسِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْكَذِبِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْكُهَّانَ كَانُوا يُحَدِّثُونَنَا بِالشَّىْءِ فَنَجِدُهُ حَقًّا. قَالَ:« تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ». فَحَرِيٌّ بِالْمَرْءِ أَنْ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْ تِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ مِنْ قِرَاءَةٍ لِلْكَفِّ، وَالأَبْرَاجِ وَسُؤَالِ الْمُنَجِّمِينَ وَالْعَرَّافِينَ.


الخطبة الثانية : عباد الله إنَّ الله تعالى حين أقدَر الشياطين على التسلّط والتلبُّس فإنه سبحانه لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانًا، قال الله عز وجل: " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ"  بل حين أقسَمَ إبليسُ الرَّجيم على إغواءِ بني آدم اعتَرَفَ بعجزه عن المؤمنينَ فقال:" فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ "، وقال الله عزّ وجلّ:"إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"

وقد بيَّن الله تعالى ما نتَّقي به كيدَ الشياطين وأوليائهم من السّحَرة والمفسدين، فأوَّلُ ذلك ـ يا رعاكم الله ـ التوكّلُ على الله تعالى واليقينُ والإيمان الصادق بالله العظيم، "وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ"  والمؤمِنُ مهما عصَفَت به الآلاَم وتكالبت عليه ضغوط الحياة والأسقامِ فهو دائمُ التعلّق بالله، مستسلمٌ لمولاه، صابِر على بَلوَاه، لا يستسلِمُ للخرافات والأوهام.

عبادَ الله، مما يسلِّط الشياطينَ على الإنسان ويجلب أذَاهم المعاصي والمنكراتُ والأغاني والمزامِير والصوَر، فإن ذلك يجعَل البيوتَ مأوى للشياطين، وفي الحديث: ((إنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة))، وهذا يفسِّر لك سرَّ شكوى البيوتِ مِنِ انتشار العُقَد النفسيّة والوساوِس القهريّة والأسقامِ والأوهام، "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" 

كما أن العملَ بالتوجِيهَات النبويّة حِرزٌ من الشيطان، وقد ورد في صحيح التوجيه النبويِّ الأمرُ بإمساك الأولاد حين الغروبِ حين تنتشر الشياطين، كما ثبت في الصحيحين الأمر بكظم التثاؤب ووضعِ اليد على الفم عند التثاؤب لئلا يدخُلَ الشيطان، وكذا الأمرُ بالتسمِية عند نزولِ المنزل ودخول البيتِ ودخولِ بيتِ الخلاء والتسمية عند كشفِ العورة، فإن ذلك سترُ ما بين الجنِّ وعورات بني آدم. كما يحذَر المسلم من الغضب الشديد أو الفرح والطّرب الشديد أو الخوف الشديد، فكل تلك المواطن من حالاتِ الضعف البشريّ، والتي قد يتسلَّط فيها الجانّ على الإنسان ما لم يتحرَّز.

أمَّا ذكرُ الله تعالى فهو الحصن المنيع والسّدُّ العظيم الرفيع، ومَن داوَم على ذكر الله في كلِّ حال والتزَم الأورادَ الشرعيّة والأذكار النبويّة خاصّةً في طرَفي الليلِ والنهار وعند المنام فقد بات في حِفظِ الله وأمسَى في كَنَفِه وأصبح في ستره وحماه، يرعاه الله ويحفظه ويحميه ويكلؤُه.

ومن أعظمِ الأوراد الإكثارُ من قراءة القرآن الكريم عمومًا، وما وَرَد به الأمرُ خصوصًا، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشيطان ينفِر من البيت الذي تقرَأ فيه سورة البقرة))، وقوله: ((من قرأ بالآيتَين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه))، وقوله: ((من قرأ آيةَ الكرسيِّ حين يأوي إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافِظٌ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح))، كما أنَّ قراءة سورةِ الإخلاص "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" والمعوِّذتين "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" و"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" ثلاث مرات في الصباح وثلاث مرّات في المساء تكفي من كل شيء كما صحَّ بذلك الخبر عن الصادِق المصدوقِ .

وكذلك الأخذُ بالتعاوِيذِ والأدعِيَة الثابِتَة عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كقولِه: ((أعوذ بكلماتِ الله التّامَّات مِن شرِّ ما خلق))و((بسم الله الذي لا يضرّ معَ اسمِه شيءٌ في الأرض ولا السَّماء وهو السّميع العليم)). وغيرُ ذلك كثير من الوارد الثابت.

وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلَّى الفجرَ فهو في ذمّةِ الله))، وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:((من تصبَّح بسبعِ تمرات من تمر العجوة لم يصِبْه سمّ ولا سحر)). فاحفَظوا ما علَّمكم نبيُّكم، وعلِّموه أهلَكم وأولادَكم، وحافِظوا عليه تكونوا من المحفوظِين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق