الخميس، 25 أبريل 2013

خطبة جمعة : أحكام وآداب من سورة الحجرات

 الخطبة الأولى : أيها المسلمون يقول ربنا عز وجل في محكم التنزيل: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)   فمن عظيم مقاصد إنزال القرآن تدبر آياته ومعانيه، وقد حث الله سبحانه على هذه العبادة ورغبهم فيها فقال :( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ، فبتدبر كلام الله يتعرف العبد على ربه ومولاه، فيزيد إيمانه، وتقوى علاقته بربه، قال بن القيم: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها " . 
ومن سور القرآن العظيمة التي يحتاج المسلم إلى معرفة معانيها سورة الحجرات، هذه السورة حوت جملة من الأحكام والآداب التي لا يستغني عنها مؤمن، خصوصا أن كثيرا من هذه الأحكام والآداب قد بدأها الله عز وجل بلفظ الإيمان فقال : يا أيها الذين آمنوا " وفي هذا يقول الصحابي المفسر الجليل عبد الله بن مسعود: إذا سمعت في القرآن يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه " 
أيها المؤمنون: من أول تلكم الأحكام والآداب وهو أساسها الذي تنبي عليه قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)  ، فينهى الله المؤمنين عن التقدم بين يدي الله ورسوله، وذلك يقتضي تقديم حكمهما في كل أمر وشأن، فالمؤمن الصادق في إيمانه مستسلم لحكم ربه، يقدمه ويعمل به ويأمر به غيره ويصبر على تطبيقه، وإن خالف هواه ومصلحته، قال تعالى في وصف المؤمنين (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) ، وقال سبحانه(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) ، قال المفسر السعدي رحمه الله: فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان" 
   قال علامة الشام الأوزاعي المتوفى عام (175هـ) موصيا وناصحا: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم القول إلا بالعلم، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية موافقة للسنة "  
فكيف بمن يرد قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم أو يفسرهما حسب ما يقتضيه هواه ومصلحته، وخصوصا في زمن الفتن واختلاط الأمور، فإن الواجب في هذه الحال الرد إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم خاصة لأنهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)
 عباد الله : ومن جملة الآداب والأحكام التي وردت في سورة الحجرات قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ، فيوجه الله عباده المؤمنين إلى التثبت من الخبر إذا جاء من قِبَلِ من لا يُعرف بالصدق، قَبلَ بناءِ الحكم عليه، حتى لا يندم المؤمنون ويقعون في الإثم نتيجة التسرع في الحكم، وربما أدى عدم التثبت إلى تلف الأنفس والأموال بغير حق. 
كما تدل الآية على عدم جواز نقل الأخبار قبل التثبت من صحتها، قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يُحَدِّثَ بكل ما سمع "  ، وفي زماننا تيسرت وسائل الاتصال الحديثة كالبلاك بيري والهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعية التي تنقل الخبر والحدث عبر العالم في لحظات سريعة، فيتلقفها من لا فقه عندهم ثم يبادرون بنشرها دون تثبت من صحتها، مما يؤدي إلى انتشار الإشاعات، التي تأثر على المجتمع وعلى أمنه وسلامته، خصوصا إذا كانت هذه الإشاعات مما يتعلق بالدولة داخليا أو خارجيا.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة من يكذب الكذبة فتنتشر في الآفاق قال صلى الله عليه وسلم وسلم في الرؤيا التي رآها : فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ، بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولى، قَالَ: قُلْتُ سُبْحَانَ اللهِ مَا هذَانِ ؟ قال الملك : فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ  " رواه البخاري ومسلم
وفي هذه الآية أدب للمثقفين وكتاب الصحف وغيرهم ، بأن لا يبنوا أحكامهم ونقدهم على ما يتلقفوه من وسائل الإعلام دون تثبت وتمحيص، فكم سمعنا عن أحكام صدرت منم في قضايا تمس صلب الدين وتمس أمن البلاد، جانبوا فيها الصواب، وخالفوا الشرع والكتاب، لأنهم أسسوها على أخبار منقولة من وسائل الإعلام الغربية أو المحلية دون تثبت، و ذلك لأجل أن يحقق سبقا إعلاميا، وشهرة على حساب دينه ووطنه. 


الخطبة الثانية : أيها المسلمون : ومن الأحكام والآداب في سورة الحجرات قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)  فبعد أن قرر الله سبحانه وتعالى مبدأ الأخوة الإيمانية بين المؤمنين بقوله قبل هذه الآية :( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)  ذكر الأمور التي تتنافى مع هذه الرابطة التي تجمع العباد مع بعضهم وهي رابطة الإيمان، ومن ذلك النهي عن السخرية من المؤمن واحتقاره وانتقاص شأنه كائنا من كان ، ويؤكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» ، ويدخل في هذا النهي النكت التي يطلقها بعض الناس ليضحك أصحابه، فيسخر من أهل البلد الفلاني، ومن القبيلة الفلانية، فهذا منهي عنه ومتوعد فاعله، قال صلى الله عليه وسلم: ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له ويل له  " 
كما ينهى الله المؤمن أن يلقب أخاه بما لا يحب ولا يرضى من الألقاب التي تسوؤه ولا تسره، أما الألقاب غير المذمومة فلا تدخل في هذا الحكم.
عباد الله: ومن الأحكام والآداب التي وردت في السورة قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) ، فمما ينافي الأخوة الإيمانية ظن السوء بالمؤمن والتجسس  عليه بتتبع عوراته والبحث عن عيوبه، وهذا الفعل متوعد صاحبه بالعقاب قال صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِى بَيْتِهِ " .
ثم نهى الله عن الغيبة، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ذكرك أخاك بما يكره" ، وقد شبه الله المغتاب في الآية بمن يأكل لحم من تكلم فيه ميتا. 
والغيبة ذنب عظيم يحصد الحسنات يوم القيامة حصدا، فيذر صاحبه مفلسا، فيورده النار، ولكن الكثير من الناس لا يهتمون لذلك، بل فاكهة المجالس الغيبة، بل قد تخرج الغيبة في قالب طيب وكلام جميل، ولكنه يقصد من ورائه انتقاص هذا المغتاب . 
أيها المؤمنون: هذه السورة اشتملت على أحكام مهمة في بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى، وأن الإيمان بالله أكبر نعمة يمنها الله على العبد، فيجب عليه أن يشكر ربه عليها وأن يؤدي حقها. 
أحكام وآداب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها  وبيانها، فاقرؤوا كتاب ربكم وتتدبروا معانيه، واعملوا بأحكامه تفلحوا في الدارين .  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق