الجمعة، 10 مايو 2013

خطبة جمعة : الاعتذار


الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله أن حسن الخلق له مكانة عليا في ديننا الحنيف، فهو من أكثر أسباب دخول الجنة فروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ اَلْجَنَّةَ تَقْوى اَللَّهِ وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ "  كما أن حسن الخلق أساسٌ من أسس كمال الإيمان، ومظهر من مظاهر الإسلام، يقول صلى الله عليه وسلم : ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا ، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا )).قال ابن القيم رحمه الله: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين) . 
ومن جملة الأخلاق الحسنة التي على المسلم أن يتخلق بها في تعامله خلق الاعتذار، وحقيقته إظهار الندم على فعل الذنب، مع الإقرار بأن له عذرا في فعله،  وقال المُناوي: 
الاعتذار تحري الإنسان ما يمحو به أثر ذنبه " 

وذلك لأن الأصل في الإنسان الخطأ والظلم والجهل، قال تعالى : (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) ، وقال صلى الله عليه وسلم: كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ, وَخَيْرُ اَلْخَطَّائِينَ اَلتَّوَّابُونَ " ، فإذا عُلم من ذلك أن الخطأ والزلل واقع من العبد ولا بد، ثم من رحمة الله تعالى أن جعل لعباده من الأسباب ما يصلحون به أخطاءهم وزللهم، ومن ذلك الاعتذار . 
جماعة المسلمين: الخطأ والظلم والجهل من العبد إما إن يقع في حق الله تعالى، وإما أن يقع في حق المخلوق، وإما أن يقع في حق نفسه.

فإن وقع الخطأ من العبد في حق ربه بأن أذنب وعصى، فترك ما به أمر، أو تجرأ على فعل ما عنه نهي وزجر، فاعتذاره لربه بتوبة نصوح، مع ندم من القلب، وعزم على عدم العودة ، قال تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)  ، ومن تودد ربنا –جل في علاه- إلى عباده أنه يحب منهم الاعتذار إليه بسبب تقصيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: لاَ شَخْص أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ " قال القاضي عياض :أى اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم فيغفر لهم" .
وقد وعدك الله أيها التائب بقبول توبتك، ومحو خطيئتك ، فقال التواب الرحيم: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون). 
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كثير التوبة والاستغفار، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ : سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : (( والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً )) . 

وإن وقع الخطأ من العبد تجاه نفسه، بأن قصر في حقوقها، أو ظلمها بفعل الذنوب والمعاصي والمنكرات، فعليه أن يحاسب نفسه، فيكمل نقصه، ويستدرك تقصيره، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )

أيها المسلمون: وإن وقع الجهل والظلم والخطأ على الغير، فلا بد من التوبة إلى الله أولا، ثم الاعتذار وطلب العفو من الغير ثانيا، مع رد حقوقهم إن اغتصبت أو أتلفت. 
ولن ينجو العبد يوم القيامة إلا بالسلامة من حقوق الناس، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقرن حقوقهم بحقه – جل في علاه- كقوله تعالى : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) فجمع الله بين حقه في العبادة وبين حقوق الخلق، ليدل على وجوب احترامها وأدائها على الوجه الأكمل. 

ومن السنة ما رواه أبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ».
فهذا العبد قد أتى بحق الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة، ولكنه قصر في حق الخلق، بأن انتهك أعراضهم بالشتم والقذف، وأموالهم بأكلها دون وجه حق، ودماءهم بأن سفكها ظلما، واعتدى عليهم بالضرب، فلما لم يعتذر منهم في الدنيا، ويطلب العفو والمسامحة، حصلت المقاصة بين الحسنات والسيئات، فكان سبيله إلى النار . 


الخطبة الثانية: إنَّ الاعتذَارَ مَظْهَرٌ حضارِيٌّ، يدلُّ علَى احترامِ الإنسانِ لنفسِهِ، وتقديرِهِ لغيرِهِ، فلاَ ينبغِي لعاقلٍ أَنْ يتعالَى عنْهُ ، فإذا اخطأت تجاه أحد من الخلق فأعترف بذنبك، واطلب العفو والمسامحة، فإنك إن فعلت ذلك فأنت من الأخيار. 

وقَدْ أَصَّلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لثقافةِ الاعتذارِ بينَ الناسِ بِمَا يبعَثُ بينَهُمْ المحبَّةَ، ويزرعُ فيهِمُ الثقةَ والمودةَ، فنَهَى عَنِ الهجْرِ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، وجعلَ لِمَنْ بادرَ بالاعتذارِ وإلقاءِ السلامِ الفضلَ والنوالَ، قالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« لاَ يحِلُّ لِرجُلٍ أنْ يَهجُرَ أخَاهُ فَوقَ ثلاثِ ليَالٍ، يَلتَقِيَانِ فَيُعرِضُ هذا وَيُعرِضُ هذا، وَخَيرُهُمَا الذي يَبدَأُ بِالسّلامِ» 

ومَا أجملَ أَنْ تنتَشِرَ ثقافةُ الاعتذارِ فِي بيوتِنَا، فيعتذِرَ الزوجُ لزوجِهِ، وتعتذرَ الزوجةُ لزوجِهَا، إِنْ بدَرَ مِنْ أحدهِمَا خطَأٌ، وذلكَ بكلمةٍ تَبْعَثُ فِي نفسِ الطرفِ الآخرِ الرضَا والقرارَ، وتُشعِرُهُ بإعادةِ الاعتبارِ، وتُوَثِّقُ بينَهُمَا عُرَى المحبةِ والاستقرارِ، وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي الدرداءِ أَنَّهُ قالَ لزوجتِهِ أُمِّ الدرداءِ رضيَ اللهُ عنْهُمَا: إذَا غَضِبْتِ أَرْضَيْتُكِ، وإذَا غَضِبْتُ فَأَرْضِينِي، فإنَّكِ إِنْ لَمْ تَفْعَلِي ذلكَ فمَا أسرَعَ مَا نفتَرِقُ " 

وعلى المسلم الذي اعتذر إليه، وطلب أخوه المسلم منه العفو والصفح أن يقبل عذره ولا يرده، متأسيا بربنا جل في علاه الذي يقبل التوبة من عباده، وبنبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان يقبل عذر المعتذر فروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري قال: أتاني ناس من الأشعريين فقالوا: اذهب معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا حاجة . قال: فقمت معهم فقالوا: يا رسول الله استعن بنا في عملك فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا . وقلت: لم أدر ما حاجتهم . فصدقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرني وقال: " إنا لا نستعين في عملنا من سألناه " 

وتأملوا حال الصحابة رضوان الله عليهم فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ – أي يتغير لونه -، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ .." فتأملوا رَحِمكُم اللهُ كَيْفَ كان الصحابةُ رضِيَ الله عنهم يَتَأَلَّمون عِندَ وقوعِ أَحَدِهِم في خَطأ يسيرٍ, وكيفَ كانوا يُبادِرونَ إلى الاعترافِ بالخَطَأ والاعتذارِ بألطفِ الأساليب, بل إن الواحدَ مِنهم يُحمِّل نفسَه الخَطَأ وإن كان صاحِبُهُ مخطِئاً في حقه " 
أيها المؤمن: إن قبول اعتذار أخيك عز لك ورفعة لمقامك ، قال صلى الله عليه وسلم: " 
وَمَا زَادَ اَللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا, وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ " 

كما على المسلم أن يحذر من الأقوال والأفعال التي يخشى أن يعتذر منها، فعن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم : إياك وكل ما يعتذر منه " 
وعلى المسلم أيضا إن رأى من أخيه شيئا لم يعجبه أو سمع عنه خبرا لا يرتضيه أن يقيم له عذره قبل أن يعتذر، روى البيهقي عن جَعْفَر بْنِ مُحَمَّدٍ قال: " إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ أَصَبْتَهُ وَإِلَّا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لَا أَعْرِفُهُ " وهذا من كمال الأخوة الإيمانية بين المسلمين. 

وسلطان المسلمين وولي أمرهم أولى الخلق بالاعتذار له عما صدر منه، قال الإمام الطرطوشي المالكي – رحمه الله : كان العلماء يقولون: إن استقامت لكم أمور السلطان فأكثر واحمد الله تعالى واشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهون وجهوه إلى ما تستوجبونه منه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم، فأقيموا عذر السلطان بانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة واستئلاف الأعداء ورضاء الأولياء، وقلة الناصح وكثرة المدلس والفاضح" 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق