الجمعة، 14 مارس 2014

خطبة جمعة: فضل العلم وطلبه

الخطبة الأولى : أيها المسلمون قال ربنا عز وجل في محكم التنزيل : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) دلت هذه الآية على فضيلة عظيمة للعلم وأهله قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله –في بيانها " ورفعة الدرجات تدل على الفضل إذ المراد به كثرة الثواب وبها ترتفع الدرجات ، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت ، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة" ، وفي صحيح مسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي فَقَالَ ابْنَ أَبْزَى . قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا . والمولى هو العبد الذي اعتق-  قَالَ فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هكذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المملوك على الأسرة" ، وقال داوود بن مخراق- وهو من علماء السلف- : من أراد شرف الدنيا والآخرة فليتعلم العلم " ، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي أن الخليفة هارون الرشيد قدم الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله ابن المبارك، - وقد وصفه الذهبي بقوله : الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته- وتقطعت النعال،وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فقالت: ما هذا ؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم.فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان"

أيها المسلمون: ومن فضل العلم وعلو شأنه أن الله عز وجل لم يساوي بين العالم والجاهل فقال :" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" والغرض من الآية نفي المسواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والقاعدة عند أهل التفسير في مثل هذا النفي أنه يحمل على أعم معانيه وأحواله.

ومن فضل العلم الشرعي أن الله قرن شهادة الذين أوتوا العلم بشهادته وشهادة ملائكته على أعظم مشهود وهي كلمة التوحيد. قول ربنا عز وجل :" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ، قال القرطبي رحمه الله " في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء " وقال المفسر السعدي رحمه الله " وفي ضمن ذلك تعديلهم وأن الخلق تبع لهم وأنهم هم الأئمة المتبوعون وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا يقادر قدره "

ومن فضل العلم وشرفه وشرف أهله أنهم أعرف الناس بربهم وأخوفهم له وأكثرهم محبة وتعظيما لربهم قال تعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"، قال أهل العلم : من كان بالله أعرف كان منه أخوف "

عباد الله : سالك طريق طلب العلم الشرعي سالك لطريق الجنة قال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ سلَكَ طريقاً يَطلُبُ فيه علماً سَلَكَ الله عزّ وجلّ به طريقاً من طُرُقِ الجنة) فالنبي صلى الله عليه وسلم رتب الجزاء في الحديث على مجرد سلوك طلب العلم وليس على حصول النتيجة وهي كون طالب العلم من العلماء، بل يكفيه شرفا وفخرا أنه طالب للعلم الشرعي .

ومن فضل طلب العلم الشرعي تعظيم الملائكة له وحبها إياه وحفظهم له، فعن صَفْوَان بْن عَسَّالٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بُرْدٍ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بطالبِ الْعِلْمِ، طَالِبُ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ "

ومن فضل العلم الشرعي أن طالبه وارث للنبي صلى الله عليه وسلم، فما أعظمه من إرث ، قال صلى الله عليه وسلم : " وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياءَ لم يُورِّثُوا ديناراً ولا دِرْهماً، ورَّثُوا العِلْمَ، فمن أخَذَه أخَذَ بحظٍّ وافِرٍ"  ، ورى الطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه- أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: «ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ» قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: « فِي الْمَسْجِدِ» فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟» قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: «وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
أيها المسلمون : إن فضائل العلم الشرعي أكثر من أن تحصر في مثل هذا المقام، فهي كثيرة جدا، ومن قرأ القرآن وتدبره، والسنة وتأملها، وأحوال السلف رأى ذلكم الفضل رأي عين.


 الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : قال ابن القيم رحمه الله : " أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان "
فما هو العلم الذي من سلك طريق طلبه نال ذلكم الفضل؟ إنه العلم الشرعي ، علم كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، بجميع الفروع والتخصصات من اعتقاد وتفسير وعبادات وبيع وشراء وزواج وطلاق ومواريث مما حواه كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله " فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبطُ نصوصِ الكتابِ والسنةِ وفهمُ معانيهما والتقيدُ في ذلك بالمأثورِ عن الصحابةِ والتابعينَ وتابعيهم في معاني القرآنِ والحديثِ وفيما وردَ عنهم من الكلامِ في مسائلِ الحلالِ والحرامِ والزهدِ والرقائقِ والمعارفِ وغيرِ ذلك ، والاجتهادُ في تمييزِ صحيحهِ من سقيمهِ أولاً ثم الاجتهادُ في الوقوفِ على معانيه وتفهمه ثانيا ، وفي ذلك كفاية لمن عَقَل " أ.هـ 

وهذا العلم الشرعي النافع إنما ينال بالتفقه والتعلم وحضور مجالس أهل العلم في المساجد ودور العلم التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من رياض الجنة فقال : "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَارْتَعُوا» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ: «مَجَالِسُ الْعِلْمِ " والرياض هي البساتين الخضراء وارفة الضلال. 

والمقصود بحلق الذكر في الحديث مجالس تعلم أحكام الحلال والحرام والبيع والشراء والعبادات، وليس مجرد القصص والأخبار . قال أبو قلابة رحمه الله " ما أمات العلم إلا القصاص ، يجالس الرجل الرجل القصاص سنة ، فلا يتعلق منه بشي ويجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشئ "

وهذا والله هو الواقع إنك لتسمع لأحدهم مئات المحاضرات والمقابلات سواء في الفضائيات أو السمعيات ولا تستفيد من أمر دينك شيئا أبدا ؟ بل خطرهم على الإسلام عظيم إذ أن الناس يثقون بهم لأنهم يتكلمون بقال الله قال رسوله ، ثم يدسون السم في العسل فيروجون لأحاديث ضعيفة وموضوعة ويحثون الناس على البدع ويظهرونها على انها سنة وربما كانت مجالسهم مجالس اختلاط بين الرجال والنساء فتعظم الفتنة وينتشر الشر  ، قال الإمام مالك رحمه الله محذرا منهم " إني لأكره هذه القصص في المساجد ، ولا أرى أن يجلس إليهم ، إن القصص لبدعة ، وليس عليهم أن يستقبلوه كالخطيب  "

فاحرص أيها الموفَّقُ على طلبِ العلمِ من العلماءِ قبلِ فَقْدِهم، فإنَّ من أعظم ما يُصِيبُ الأمَّةَ من مصائبَ: موتَ العلماء؛ لأنَّهم ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورَّثوا العلم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : «موتُ العالم ثُلْمَةٌ في الإسلام لا يَسُدُّها شيءٌ، ما اختلفَ الليلُ والنهارُ».

فاتّقوا الله عباد الله، واعرفوا لعُلمائِكم قَدْرَهم ومكانتَهُم، وانهلوا من عُلومِهم وأخلاقِهم وسَمْتِهم، وترحَّموا على من مات منهم، وسيروا على نَهجِهِم، واستقيموا على ذلك؛ تكونوا من المفلحين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق