الخميس، 7 أغسطس 2014

المداومة على العبادة

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الخلق لغاية عظيمة هي عبادته وتوحيده قال تعالى :"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ولم يرتض منهم إلا أحسن العبادة قال سبحانه : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "  ووعد من أحسن في عبادته بالأجر العظيم والثواب الجزيل فقال سبحانه:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ،أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا "

والعباد يوم القيامة إنما يجزون بما قدموه من عمل وعباده قال تعالى "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "، فتوضع الموازين في ذلك اليوم وتوزن الأعمال " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " وقال الله في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " 


واعلموا أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال ، قال صلى الله عليه وسلم " فَوَالَّذِي لا إلهَ غَيْرُهُ إنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ فَيدْخُلُهَا ، وَإنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذراعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا " وقال عليه الصلاة والسلام: "  وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ " .

عباد الله : إن الموفق حقيقة هو من أعانه الله تعالى ووفقه لعبادته والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، ولذلك قرن الله بين العبادة والاستعانة به في قوله تعالى :" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فالعبد لا يوفق للعبادة إلا بأن يستعين بالله على فعلها وأدائها، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ما علمه معاذ فقال:"أُوصيكَ يا معاذ لا تَدَعن في دُبُر كُل صلاةٍ تقول: اللهُمَّ أعني على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتك" وهذا من أفضل الدعاء وأجمعه قال ابن تيمية رحمه الله: تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}"، ولما كان الباعث على العمل هو القلب كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول : إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنْ جَلَّ جَلَالُهُ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».

جماعة المسلمين: ربنا سبحانه وتعالى يحب من عباده الاستقامة على العمل والمداومة عليه وإن قلَّ، ووعد من استقام بالجزاء والثواب العظيم قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وقال صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ " وعن عائشة رضي الله عنها قالت :كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ " 

وقَدْ أثنَى القرآنُ الكريمُ علَى مَنْ حافظَ علَى صلاتِهِ وداوَمَ عليْهَا، قالَ سبحانَهُ:( إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) فالمداومةُ علَى العملِ الصالِحِ مِمَّا يُحبُّهُ اللهُ تعالَى ، وكانَ صلى الله عليه وسلم يحبُّ المداومةَ علَى الطاعاتِ، تقولُ أم المؤمنين عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً

وكانَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سمعُوا خيراً مِنَ الأقوالِ أوِ الأفعالِ لَمْ يدعُوهُ، فقَدْ علَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أهْلَ بيتِهِ التكبيرَ والتسبيحَ والتحميدَ، فقَالَ عَلِيٌّ صلى الله عليه وسلم  : فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ،وهكذَا كانَتْ أمهاتُ المؤمنينَ ونساءُ المؤمناتِ يلتزمْنَ العملَ الصالِحَ مِنْ غيرِ فُتورٍ أَوْ قُصورٍ،  فعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، حَرَّمَ اللهُ لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ". قالَتْ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ. 

وكانَ بلالُ بنُ رباحٍ رضي الله عنه يُواظِبُ علَى صلاةِ ركعتيْنِ بعدَ كُلِّ وضوءٍ، فكانَ ذلكَ مِنْ أسبابِ سبْقِهِ فِي الجنةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبِلالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ :« يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ، عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ» قَالَ بِلَالٌ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً، مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا، فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ، مَا كَتَبَ اللهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. 

فاغتنم أيها الموفق وقتك وحياتك، فالسنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجَدَاد يوم المعاد؛ فعند الجَدَاد يتبين حلو الثمار من مرها.


الخطبة الثانية : عباد الله لقد منَّ الله عليكم بإدراك شهر رمضان، شهر العبادة وتحقيق التقوى، فصمتم نهاره وقمتم ليله وعمرتموه بخصال الخير، وإنَّ مِنْ توفيقِ اللهِ تعالَى للعبدِ أَنْ يُحافِظَ علَى المكاسبِ الإيمانيةِ التِي حقَّقَهَا فِي شهرِ رمضانَ، فيلتزِمَ بأداءِ الفرائضِ والواجباتِ، ويتقرَّبَ إلَى اللهِ عزَّ وجلَّ بالمداومةِ علَى النوافلِ والطاعاتِ، قالَ اللهُ تعالَى فِي الحديثِ القدسِيِّ:" وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ"

ومِنْ أهمِّ النوافلِ التِي اعتدنَا عليْهَا فِي رمضانَ صلاةُ القيامِ، فلنحرِصْ عليْهَا، فإنَّ قيامَ الليلِ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ فِي سائرِ العامِ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ»

ومِنْ أبرزِ مكاسبِ رمضانَ الإقبالُ علَى قراءةِ القرآنِ، فهنيئاً لِمَنْ جعلَ القرآنَ أنيسَهُ فِي سائرِ الأيامِ والأزمانِ، فيرتقِي بهِ فِي درجاتِ الجنانِ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا"

واعلمُوا رحمكم الله  أنَّهُ يُندَبُ للمسلمِ الحرصُ علَى صيامِ النفْلِ بعدَ رمضانَ اقتداءً برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَدْ سَنَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ صيامَ الاثنينِ والخميسِ والأيامِ البيضِ مِنْ كلِّ شهرٍ، وكانَ صلى الله عليه وسلم يحثُّ علَى صيامِ ستةِ أيامٍ بعدَ رمضانَ، ويقولُ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» 
ومعنى الحديثِ -أيها المؤمنون كما قال ابنُ رجبٍ الحنبلي -رحمه الله تعالى-: ((لا يَحْصُلُ مقصودُ صيامِ ستةِ أيامٍ مِن شوالَ؛ إلا لِمَنْ أكملَ صيامَ  رمضانَ، ثم أتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِن شوالَ. فمَنْ كان عليه قضاءٌ مِنْ رمضانَ، ثم بَدَأَ بصيامِ سِتٍّ مِنْ شوالَ تَطَوُّعًا؛ لم يَحصلْ لهُ ثوابُ مَنْ صام رمضانَ، ثم أتبعَهُ بِسِتٍّ مِن شوالَ؛ حيثُ لَم يُكْمِلْ عِدّةَ رمضان)) ، وشوال كله محل لصيام الست إلا يوم العيد للنهي عن صيامه، ويجوز صيامها متتابعة أو متفرقة على حسب استطاعة العبد . 

أيها المؤمنون! لِصيامِ هذه السِّتِّ فضلٌ عظيمٌ فمَنْ صام هذه الأيامَ السِّتَّ؛ كان كمَنْ صام الدهر؛ يعني: السّنَةَ كلَّها. وجاء ذلك صريحاً في حديثٍ صحيحٍ عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "صيامُ شهرِ رمضانَ بِعَشْرَةِ أشْهُرٍ، وَصِيامُ سِتَّةِ أيامٍ بِشَهْرَيْنِ؛ فَذَلِكَ صِيامُ السّنَةِ وهذا مِنَ الأعمالِ القليلةِ ذاتِ الأجرِ الكبيرِ، والتي خصَّ اللهُ بها هذه الأمةَ دون سائرِ الأمم .

فصومُوا -أيها المؤمنون– هذه الأيامَ القلائلَ تطوعاً للهِ؛ فإنها تَجْبُرُ لكم النقصَ الذي حَصل في فريضَتِكم، ويُضاعَفُ لكم بها الأجرُ عند ربِّكم، وتَغْنَمونَ بِصيامِها طُولَ دَهْرِكم . 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق