الخميس، 21 أغسطس 2014

خطبة جمعة : من صفات أولي الألباب في القرآن

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين لقد منَّ الله على هذه الأمة بإنزال كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل في اتباعه الهدى والنجاة، وفي الإعراض عنه الضلال والهلاك قال تعالى:"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" ولأجل حصول هذه الهداية للعبد من القرآن حث الله على تدبر آياته والتفكر في معانيه فقال :" كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ "

وأخبر أن التذكر والاتعاظ بما فيه من الأحكام والحِكم إنما يحصل لأولي الألباب، وهم أولو الْعُقُول الَّتِي عقلت عَن الله أمره وَنَهْيه وحكمته، ومن تأمل الآيات التي يحث الله فيها على التذكر والاتعاظ يجدها منوطة بأولي الألباب كقوله تعالى "وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "  وقال فيمن يتعظ بقصص القرآن " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى " 

وبين أنَّهم أخص الناس تدبرا لمخلوقات الله واستشعارا لعظمة قدرة الله فقال سبحانه : " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ،الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"  هؤلاء هم أهل العقول الراجحة، والأفهام الصائبة، أوتوا ذكاء وزكاء، ومعرفة وفطنة، قادتهم إلى الفلاح والنجاح والفوز في الدارين قال تعالى : " فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ "  

عباد الله : من صفات أولي الألباب التي مدحهم الله ورسوله عليها وهي من ثمرات تدبر كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعهم للمحكم من كلام الله عز وجل وهو البين الواضح الذي لا يشتبه بغيره،  والإيمان بالمتشابه منه، وهو ما احتمل معان عدة لا يتعين أحدها حتى تضم إلى المحكم، فيردون المتشابه إلى المحكم  قال تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"  وأما أصحاب العقول السقيمة والقصود السيئة الذين زاغت قلوبهم وتشربت بالهوى وصدت عن الحق فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، ثم يستدلون بالمتشابه على مقالاتهم الباطلة طلبا للفتنة وتأويلا للأدلة لتخدم مآربهم ومذاهبهم فيضلوا الناس.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم " ا.هـ ، وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى : (وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) أي يتعلقون بالمتشابه من الكتاب، فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلا على ما هم فيه من البدع المائلة عن الحق"

ولخطورة هذه الفئة من الناس حذرنا منهم النبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هذِهِ الآيَةَ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) إِلَى قَوْلِهِ (أُولُو الأَلْبَابِ)  قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ "

فأصحاب الفتن والقلوب المريضة جعلوا النص الشرعي تابعا لهم ولآرائهم وأهوائهم، فإذا جاء موافقا لما معهم ذكروه اعتضادا لا اعتمادا ، وإذا خالف النص ما هم عليهم حرفوا معناه بمعاول التأويل.

وقد ذم الله هذا المسلك قال تعالى : " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ "

وفي وصية عمر بن عبد العزيز لابنه قال له : ( ولا تكن ممن يقبله إذا وافق هواه، ويدعه إذا خالف هواه، فإذاً أنت لم تؤجر فيما قبلت منه، ولم تنج من الإثم فيما دفعت منه إذا خالفك"
والإمام الأوزاعي رحمه الله شدد في الإنكار على فعل ذلك بنصوص الشرع فقال في معرض رده عليهم: قلتم أنتم  لا بل نعرضها أي النصوص الشرعية- على رأينا في الكتاب فما وافقه منه صدقناه وما خالفه تركناه وتلك غاية كل محدث في الإسلام رد ما خالف رأيه من السنة "


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين لقد أثنى الله عز وجل على أولي الألباب وبين أنهم أهل التذكر والاتعاظ بنصوص الشرع، فيتبعون محكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ليصلوا إلى الأحكام والحكم التي أرادها الله سبحانه وتعالى من إنزال الشرع وإرسال الرسل ، وهذه هي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا عظيما كما قال سبحانه: " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "

وليس من الحكمة أن يعطى العبد عقلا ذكيا يعارض به نصوص الشرع، ويصرفها لهواه ومآربه الخاصة، بل المؤمن الفطن يرجع إلى نصوص الشرع ليدرك مراد الله سبحانه وتعالى فيعمل به وإن خالف هواه، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا " ، وأما اتباع الهوى في التعامل مع النصوص فإنه يردي بصاحبه الهلاك قال سبحانه : " فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " بل في اتباع الهوى ورد الحق إفساد عظيم قال تعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ "

وقد حذَّرنا اللهُ -تعالى- من الاستقلالِ بالعقلِ والاغترارِ بالرأيِ دونَ الانقيادِ لشرائعهِ والاستسلامِ لأوامرهِ ونواهيهِ؛ فقال -مبيِّناً سببَ هلاكِ الأُمَمِ مِمَّن كانَ قَبْلَنا-: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، يقول الحافظُ المفسّرُ ابنُ كثير: لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ  بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ. ا.هـ

ومن أعظم الافتراء على الشرع أن تجعل أقوال المفكرين والمنظرين هي الحاكمة على نصوص الشرع، فيحل الحرام ويحرم الحلال بلا دليل شرعي سوى ما قرره مفكريهم، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ " رواه الترمذي

فترد نصوص الشرع وآثار السلف من الصحابة والتابعين لأجل نصرة حزبيات ومآرب خاصة

أما ألو الألباب فإن الله وصفهم بأنهم أهل اتباع لا ابتداع فقال فيهم : "فَبِشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ"

قال ابن القيم: " والقول ها هنا ما قاله الله ورسوله، واتباع أحسنه هو الاقتداء به، فهذا أحسنُ من قول كل قائل عداه" ، وقال المفسر عبد الرحمن السعدي: ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنِها وقبيحِها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذي يميز لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل"
و عَنْ مَالِكٍ بن أنس قَالَ: لَيْسَ كَلما قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يَتْبَعُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق