الخميس، 4 سبتمبر 2014

فضل العلم ووبيان الأدوار المشتركة في التربية والتعليم

الخطبة الأولى :
جماعة المسلمين: لقد مدح الله سبحانه وتعالى , العلم وأهله وحث عباده على العلم والتزود منه ، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة قال الإمام أحمد رحمه الله ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته قالوا : كيف ذلك ، قال ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ) ، فصاحب العلم حي القلب مستنير البصيرة يسير إلى ربه على نور وهدى، بخلاف صاحب الجهل فإنه متخبط في ظلمات الجهل أشبه الميت وهو حي قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهذا العلم الذي حث عليه الشرع هو العلم الشرعي .

والعلم الشرعي إخواني في الله هو ميراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتأملوا هذا الحديث النبوي في ذكر فضائل العلم الشرعي روى الترمذي عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ . قَالَ : لَا . قَالَ : أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : مَا جِئْتُ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ

وقال الله عز وجل في فضل أهل العلم ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله –في بيانها " ورفعة الدرجات تدل على الفضل إذ المراد به كثرة الثواب وبها ترتفع الدرجات ، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت ، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة" ، وفي صحيح مسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي فَقَالَ ابْنَ أَبْزَى . قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا . والمولى هو العبد الذي اعتق-  قَالَ فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هكذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المَمْلوكَ على الأسرة" ، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي أن الخليفة هارون الرشيد قدم الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله ابن المبارك، - وقد وصفه الذهبي بقوله : الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته- وتقطعت النعال،وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فقالت: ما هذا ؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم.فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان"

إخوة الإسلام: إن ديننا يشجع المسلم على كسب العلوم والمعارف الدنيوية التي تزود الأفراد والمجتمع بكل صالح ونافع يحقق عمار الأرض ومصالح العباد وفق ما أراد الله جلّ وعلا قال سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لكن لا بد أن تبنى هذه العلوم الدنيوية على العقيدة الصحيحة وعلى الأسس التربوية الشرعية السليمة وعلى الأخلاق الفاضلة، أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء ، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية ، فما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! قال تعالى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)

أيها المسلمون : إن التربية والتعليم منظومة متكاملة وسلسلة متصلة لا ينفك بعضها عن بعض ، ومع بداية العام الدراسي الجديد يتحمل الجميع مسؤوليات كثيرة ، والواجب علينا جميعا أن نقوم بهذه المسؤولية على أكمل وجه  :
أيها الطلاب والطالبات ، إن عليكم واجبات فقوموا بها على الوجه الصحيح ، استحضروا النية الصالحة عند ذهابكم إلى المدرسة بطلبكم العلم النافع فتنفعوا أنفسكم ودينَكم ووطنَكم، ثم احرصوا على الاجتهاد في الدراسة ومتابعتها والحرص عليها ، فدولتنا بفضل من الله ثم بتوجيهات من حكامنا أطال الله أعمارهم وأمدهم بالصحة والعافية وعلى رأسهم رئيس الدولة قد أولوا اهتماما بالغا بالتعليم فوفروا لك أيها المتعلم كل وسائل التعلم ، وكل ذلك من أجل خدمتكم يا معاشر المتعلمين ، فهذه نعمة لا بد أن تقابل بالشكر للمنعم وهو الله عز وجل ثم لهذه الدولة ، وشكرها يكون بالاجتهاد والمثابرة على طلب العلم وتحصيله، وهذا الاجتهاد يحتاج إلى صبر فالعلم لا يرام براحة الجسد .
كما أوصيكم إخواني الطلاب والطالبات باحترام المعلمين جميعا ، وبذل الوسع في الاستفادة من علومهم وأخلاقهم الحسنة ، فالمعلم هو أساس التعلم ، فإن أحببت معلمك وأحبك بذل لك كل ما في وسعه لتعليمك ، وإن احتقرته وتطاولت عليه فاتك علم كثير ،وهذا مثال من واقع الصحابة ، ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم، فيقول رضي الله عنهما: فأتوسّد ردائي على بابه، تسْفِي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. هذا هو الأدب حقًا.
كما أن سعة الصدر والتواضع من سمات طلبة العلم، فقد قال أحد العلماء: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر. وأدبك في مدرستك انعكاس لتربية والديك لك، فإن أحسن والدك تربيتك فسيظهر ذلك في حسن تعاملك وخلقك في مدرستك، وإن أسأت فهو عنوان فساد تربية والديك لك في المنزل.                        وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.


الخطبة الثانية : أيها المعلم والمعلمة : اتقوا الله عز وجل في الرعية التي استرعاكم الله إياها قال صلى الله عليه وسلم" مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فاخلصوا في عملكم وابذلوا جهدكم في تعليم أبنائِكم وإخوانِكم من المتعلمين ولا تقصروا أبدا  ، وكونوا أمامهم قدوة حسنة ، وعلموهم كل ما ينفعهم ، واعلموا أنكم تعملون بوظيفة الأنبياء جميعا وهي التعليم قال تعالى : "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ " قال صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت معلما "

ولكم الأجر العظيم في تعليمكم الناس، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ  ) وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضل معلن الناس الخير:« إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ»

ووأمر النبي صلى الله عليه وسلم المعلمين أن يترفقوا بالمتعلمين فقال : سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقْنُوهُمْ أي علموهم- " رواه ابن ماجة بإسناد حسن

أيها الأب والأم ، إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
 فليس دوركم هو توفير الحاجيات المدرسية والنفقات اليومية فقط بل هذا واجب عليكم تجاه أبنائكم ، ولكنك أيها الأب عليك واجب عظيم وهو تحمل المسؤولية الكبرى في تعليم ولدك وتربيته ومتابعته، فالوالد هو المخاطَب بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فليست التربية والتعليم مقتصرة على المدارس والمعلمين بل هي عمل مشترك بين الوالدين وبين المدارس   ، فراقبوا أولادكم ولاحظوا دروسهم ،لا تسمحوا لهم بالسهر الطويل في اللعب واللهو والجلوس على الفضائيات التي أفسدت التربية والتعليم في كل بقاع الأرض ، راقبوا استعمالهم للانترنت فإن سلاح ذو حدين، وقد سهل استعماله في زماننا وانتشر حتى صار في الهواتف النقالة مع كل شخص، مما سهل الانفتاح على العالم الخارجي بمفاسده ومنافعه.  

لاحظ على ولدك أو ابنتك من يصاحبون فأصحاب السوء مرض عضال فتاك لا علاج له إلا ببتره وقطعه وكما قيل (الصاحب ساحب ) و على الوالدين أن يخصصوا لأولادهم جزءا من أوقاتهم للإشراف على مذاكرتهم وتعليمهم ، وعليهم أن يسألوا عنهم في مدارسهم وعن أحوالهم الدراسية ، فالبيت جزء من التعليم لا ينفك عنه .

 ولقَدْ أدركَ الصالحونَ قيمةَ التعليمِ لأبنائِهِمْ، فحرصُوا علَى بذلِهِ لَهُمْ، وتوفيرِ الجوِّ المناسِبِ لذلكَ، فهذهِ أُمُّ سفيانَ الثورِيِّ ماتَ زوجُهَا، وأرادَ ولدُهَا أَنْ يترُكَ العلمَ لِيَكْفُلَ أُمَّهُ وإخوتَهُ، فقالَتْ لَهُ تلكَ الأمُّ الصالحةُ العارفةُ لأهميةِ العلمِ وفضلِهِ: يَا بُنَيَّ اطْلُبِ الْعِلْمَ وَأَنَا أَعُولُكَ بِمِغْزَلِي فانطلَقَتْ الأمُّ تغزِلُ صُوفَهَا، وتكافِحُ فِي حياتِهَا، حتَّى أصبحَ ولدُهَا سفيانُ علماً مِنْ أعلامِ المسلمينَ، وإماماً مِنْ أئمةِ الْهُدَى.


فمتابعةُ الوالدَيْنِ لأبنائِهِمْ فِي سلوكِهِمْ ودراستِهِمْ لَهُ أبلغُ الأثَرِ فِي تقويةِ عَزْمِهِمْ ونجاحِهِمْ وتَفَوُّقِهِمْ فِي تحصيلِهِمُ العلْمِيِّ. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وإنَّ لولدك عليك حقا»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق