الخميس، 5 مارس 2015

خطبة الجمعة : من وصايا لقمان لابنه

الخطبة الأولى : 
اعلموا رحمني الله وإياكم ، أن الوعظ حقيقة هو تذكير النفس بأوامر الله وحثها على سلوكها ، وبنواهي الله وحثها على تجنبها وتركها  ، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي الذي تعلق بشهوات الدنيا الزائلة ، فآثرها على الحظ الباقي النفيس، ودواء هذا القلب كما يقول ابن القيم – رحمه الله – " إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة " 

ومن خير ما يستعان به على ذلك ، التأمل في ما حكاه الله لنا في كتابه العزيز من قصص الماضين وأحوالهم ، وكلام الصالحين وأخبارهم ومواعظهم . 

ومما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز ، موعظة لقمان الحكيم لابنه ، فهذه موعظة عظيمة، الواجب على المسلم أن يتفكر فيها، وأن يربي نفسه وأولاده على سلوك منهجها  ، فتعالوا نقف وقفات مع هذه الموعظة الجليلة .

قال تعالى "{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، فبدأ موعظته بأعظم وصية ، وبأعظم نهي ، وهي وصية متعلقة بحق الله على العباد ، فقال " لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " قال السعدي رحمه الله " ووجه كونه عظيما أنه لا أفظع وأبشع ممن سوى المخلوق بمالك الرقاب وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا بمن له الملك كله ... وهل أعظم ظلما ممن خلقه الله لعبادته فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب  " أ.هـ

ولأجل ذلك كانت الوصية بحق الله تعالى من أعظم الوصايا، عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ .فَقَالَ يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟  قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا

جماعة المسلمين : إن الشرك بالله أكبر الذنوب على الإطلاق ، قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ  " ، وهو الذنب الذي لا يغفره الله أبدا قال تعالى " {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } ، وكل الأنبياء والرسل من لدن نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءوا للأمر بتوحيد الله والتحذير من الشرك وعاقبته الوخيمة قال تعالى " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، ومن أشرك بالله فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين قال تعالى" {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فهذا الخطاب موجه لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم المعصوم من الشرك بأنه إن أشرك بالله فعمله حابط وهو خاسر ، فمن دونه من باب أولى . 

ولخطر الشرك استعاذ منه إمام الموحدين وأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام فقال " {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} ، قال إبراهيم التيمي رحمه الله " فمن يأمن البلاء بعد إبراهيم "  ، وخافه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، روى البخاري في الأدب المفرد عن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ "

وهذا المنهج في تعليم العقيدة للصغار منهج تربوي أصيل، وذلك بغرس الإيمانِ الصحيح باللهِ تعالَى فِي نفْسِ الأولاد، لتقوى صلة الابن بربِّهِ عزَّ وجلَّ، فيُحْسِنَ أداءَ حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ.

أما الوصية الثانية من لقمان لابنه قال تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فهذه وصية من الله لنا سنسأل عنها يوم القيامة وهي من لوازم التوحيد وهي البر بالوالدين ، قال تعالى " {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} ، فمن عظم حق الوالدين على الولد قرن الله حقهما بحقه ، فأمر بالإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد . 
وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار ، روى البخاري في صحيحه عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  " 

وأما عقوق الوالدين فمن أكبر الكبائر بعد الشرك ، فكما قرن الله بين حقه وبين حق الوالدين قرن بين من اعتدى على حقه وعلى حق الوالدين قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ  " رواه البخاري  . 

ثم قال لقمان لابنه مؤكدا على حق الله وهو توحيده وعدم الإشراك به {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فعلى الرغم من الحق العظيم الذي جعله الله للوالدين ، إلا أنهما إذا أمرا الولد بأن يشرك بالله فلا سمع ولا طاعة ، فليس ذلك من عقوقهما لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق  .

ومن وصاياه " وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ  " وهم المؤمنون بالله المستسلمون لربهم المنيبون إليه ، واتباع سبيلهم بأن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله التي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته إلى الله ، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله ويقرب منه  .  

ثم يقرر لقمان لابنه مقدرة الله على خلقه وانه على كل شيء قدير ، ليستشعر عظمة الله في قلبه ، ومن ثم يدين له بالتوحيد الخالص فقال " {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ، ففي الآية بيان لعظيم قدرة الله ، والمقصود أن أي مظلمة أو خطيئة ولو كانت مثقال حبة خردل فإن الله على الإتيان بها لقدير ، ليوم القيامة ليجازى عليها العبد إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، قال تعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 

ومَنْ أيقنَ أنَّ اللهَ عز وجل محيطٌ بكلِّ شيءٍ علمًا؛ سعَى فِي نَيْلِ محبَّتِهِ ورضاهُ، وأحسنَ فِي عملِهِ، وراقبَهُ فِي تعامُلِهِ معَ الخلْقِ، ونفعَ ولَمْ يضرَّ، وأفادَ ولَمْ يُسِئْ


الخطبة الثانية : قال لقمان لابنه واعضا إياه " {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، أقم الصلاة أي بحدودها وفرضها وشروطها وفي أوقاتها ، بلا تفريط ولا نقصان  ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، بحسب استطاعتك وقدرتك ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لخيرية هذه الأمة من بين الأمم قال تعالى " {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ  " ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا بالعلم الشرعي ،  وإلا فمن الممكن أن يأمر بما يظنه معروفا فيكون باطلا ومنكر،ا وينهى عن المنكر وهو معروف وصواب ، أو يذهب يغير المنكر بمنكر أكبر منه ، فلا بد لمن تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون على بصيرة من دينه متعلما لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مقتفيا أثر الصحابة والتابعين في سلوكهم لمنهج ربهم

ثم أوصى لقمان ابنه بالصبر  لأن الداعي إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يلاقي من أذى الناس ما قد يصده عن عمله ، فأوصاه بالصبر  قال صلى الله عليه وسلم "  وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ 
فهذه وصايا من لقمان لابنه فيما يتعلق بينه وبين الله في نفسه وعبادته ، ثم أنهى وصاياه بحضه على محاسن الأخلاق فقال " {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 

فأمره بالإحسان إلى الغير ، بان لا يتكبر على الناس ، ولا يمشي بينهم مستعليا عليهم فخرا بالنعم ناسيا حق المنعم عليه بالشكر ، بل عليه أن يتواضع في مشيته مستكينا غير متجبر ، وأن يخفض من صوته إذا ما حدث الناس وكلمهم فهذا من أبلغ الأدب وأحسنه . 

جماعة المسلمين : وصايا نافعة ، عظيمة لمن تدبرها ووعاها بقلبه قال تعالى " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق