الجمعة، 23 أكتوبر 2015

خطبة جمعة : أسس بناء الأسرة .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدِ اهْتَمَّ دِينُنا الْحَنِيفُ بِالأُسْرَةِ اهْتِمَامًا كَبِيرًا، وَدَعَا إِلَى تَقْوِيَتِهَا، وَدَوَامِ تَرَابُطِهَا؛ لِتَكُونَ أُسْرَةً مُتَمَاسِكَةً سَعِيدَةً،  ينعم أَفْرَادُهَا مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَأَوْلاَدٍ وَمَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ مِنَ الأقَارِبِ وَالأَرْحَامِ بالْمَحَبَّةِ والْوِئَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). فَبِالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ بَنَى الإسلام  الأُسْرَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ الْهَانِئَةَ، وقدوتنا في هذا الجانب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال سُبْحَانَهُ:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). فقد أَكَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ الأُسْرَةَ هِيَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْخَيْرَ فَقَالَ:« خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». فَكَانَ صلى الله عليه وسلم جَمِيلَ الْعِشْرَةِ، يَتَلَطَّفُ بِأَهْلِهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمَرُ مَعَ أَهْلِهِ قليلاً قَبْلَ أَنْ يَنَامَ. وفي هذا تنبيه للأزواج أن يجعلوا لزوجاتهم وأولادهم وقتا يجالسونهم فيه ويحاورونهم ويسمع بعضهم لبعض، وهذا مما يزيد الألفة بين الزوجين ، فَلَيْسَ الْبَيْتُ لِلْمَبِيتِ فَقَطْ.

عِبَادَ اللَّهِ: ومن أسس البيت السعيد  التَّشَاوُرُ فِي نِطَاقِ الأُسْرَةِ بَيْنَ الأَبِ وَالأُمِّ وَالأَوْلاَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فالشورى مَبْدَأٌ رَاسِخٌ أَصِيلٌ، وَأَثَرُهُ نَافِعٌ جَلِيلٌ، فَهُوَ يُشِيعُ فِي الْبَيْتِ التَّفَاهُمَ وَالتَّحَابُبَ، وَيُعَزِّزُ التَّوَاصُلَ وَالتَّقَارُبَ، أَرْشَدَنَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّشَاوُرِ فِي فِطَامِ الطِّفْلِ:( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). أَيْ: إِنِ اتَّفَقَ الأَبُ وَالأُمُّ عَلَى فِطَامِ الطِّفْلِ، وَتَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ، وَأَجْمَعَا عَلَيْهِ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، وَلاَ يَجُوزُ لأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَبِدَّ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةِ الآخَرِ.

فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّضَاعَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الأَوْلَى التَّشَاوُرُ فِي قَضَايَا تَرْبِيَةِ الأَوْلاَدِ؛ والحرصِ على احتوائِهِم، وَتَوْجِيهِ سُلُوكِهِمْ، وَتَهْذِيبِ أَخْلاَقِهِمْ، وَتَوْعِيَتِهِمْ، وحثِّ الأبناءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، والإكثارِ منِ التَّطوّعِ والأعمالِ المُسْتَحَبَّات.

وَممّا يجبُ على الوالديْنِ: تَنْبِيهُ الأبناءِ إِلَى تَرْشِيدِ اسْتِخْدَامِ التَّقْنِيَاتِ الْحَدِيثَةِ، بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مُجْتَمَعِهِمْ بِالْخَيْر، وَيُحَصِّنُهُمْ مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ رُفَقَاءِ السُّوءِ، وَالأَفْكَارِ الْمُتَطَرِّفَةِ، وَالتَّوَجُّهَاتِ الْمُنْحَرِفَةِ، والمَواقعِ المشْبوهةِ على الأنترنت.

وَينبغي الحرصُ على التشاورِ فِي كُلِّ مَا يُهِمُّ الأُسْرَةَ، مِنَ التَّخْطِيطِ لِمُسْتَقْبَلِ الأَوْلاَدِ، وَمُتَابَعَةِ شُؤُونِهِمْ، لِلْوُصُولِ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيٍ سَدِيدٍ.

جماعة المسلمين: ومن الأسس التي تقوم عليها الأسرة السعيدة السعي فِي تَجَنُّبِ التَّبَاغُضِ وَالتَّخَاصُمِ، صِيَانَةً لِلأُسْرَةِ مِنَ التَّفَكُّكِ وَالتَّمَزُّقِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ لِلأَزْوَاجِ:( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ، وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». أَيْ لاَ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُبْغِضَ زَوْجَتَهُ؛ لأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَكْرَهُهُ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا آخَرَ يَرْضَاهُ، وَإِنِ انْتَفَتِ الْمَوَدَّةُ أَيِ: الْمَحَبَّةُ- فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيهَا، وَيُعَامِلَهَا بِالرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي بِنْتًا أُحِبُّهَا وَقَدْ خَطَبَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَهَا؟ قَالَ: زَوِّجْهَا رَجُلاً يَتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُحِبَّهَا لَمْ يَظْلِمْهَا.

كَمَا حَثَّ الإِسْلاَمُ الزَّوْجَةَ عَلَى الإِسْرَاعِ إِلَى الصُّلْحِ وَاحْتِوَاءِ الْخِلاَفِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ:الْوَدُودُ الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بَيْدَ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَذُوقُ غُمْضًا-أَيْ:لاَ أَذُوقُ نَوْمًا-حَتَّى تَرْضَى».

ومن الأسس التي تقوم عليها الأسرة المسلمة التعاون على تربية الأبناء، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " فيتعاون الزوجان على َحِمَايَةِ الأولادِ مِنْ مُخْتَلَفِ الأَخْطَارِ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طُرُقِ الْخَيْرِ، وغرسِ مخافةِ اللهِ في قلوبهم، وأنّه سبحانه سميعٌ لهم بصيرٌ عليمٌ بهم، كما قال لقمان لابنه وهو ينصحه : " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ" وتربية الأبناء على مخافة الله ومراقبتة أعظم وسائل التربية نفعا وأثرا في تقويم سلوك الأبناء.

كما على الزوجين أن يجتهدوا في تَعْلِيم أبنائهم الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ، وَآدَابَ الْحِوَارِ وَالْكَلاَمِ، وَحَثِّهِمْ عَلَى الصَّلاَةِ؛ فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاِعْتِنَائِهِ بِأُسْرَتِهِ فَقَالَ عَنْهُ:( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). وَقَالَ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).

وَمِنْ حُسْنِ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ الْجُلُوسُ مَعَهُمْ، وَالاِسْتِمَاعُ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمُ الاِنْشِغَالِ عَنْهُمْ، وَمُتَابَعَةُ شُؤونِ دِرَاسَتِهِمْ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُمْ، وَمَعْرِفَةُ أَصْدِقَائِهِمْ، ومعرفةُ المواقع التي يَزُورُونَها على الأنترنت، وتَنْمِيَةُ مَهَارَاتِهِمْ في الخير، وَدَعْمُ مَوَاهِبِهِمْ وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى كُلِّ نَافِعٍ مُفِيدٍ.

وَممّا ينبغي كذلك: توجيهُ الأبناء إلى ارتيادِ بيوتِ الله -تعالى- وتحبيبُهُم فيها، للاستماعِ إلى المُحاضراتِ المفيدة والدُّروسِ الدِّينيةِ النافعة، والمشاركةِ في حلقات تحفيظ القرآن، وينبغي للوالديْنِ أَنْ لا يَغْفَلا عن التأسِّي بأنبياءِ اللهِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- في دعائهم لربِّهم بِصَلاحِ الأبناء، فمن ذلك دعاءُ زكريا عليه السلامُ: (ربِّ هبْ لي من لَدُنْكَ ذُريَّةً طيِبةً إنَّكَ سميعُ الدُّعاء) ، والحرصِ على الاتِّصافِ بصفاتِ عبادِ الرحمنِ؛ التي منها دعاؤُهم: (ربَّنا هَبْ لنا مِنْ أَزْواجِنا وذُّرِّياتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلْنا للمُتَّقِينَ إماماً) .


 الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : إن الناظر في حال كثير من الأسر في بلادنا ليرى العجب، إذ كثرت حالات الطلاق ولأتف الأسباب، وهذا يرجع إلى عدم تقهم الزوج والزوجة لمقاصد الزواج في الإسلام، وطريقة التعامل مع بعضهما البعض، فإذا عرف الزوج الحقوقَ والواجباتِ التي عليه تجاه زوجته وقام بها ، وعرفت الزوجةُ الحقوقَ والواجبات تجاهَ زوجها وبيتها وأدتها على حسب استطاعتها ، دام الزواج واستمر وكانت نتيجته بيتا مسلما وذرية طيبة تخدم الدين والوطن . 

وإذا ما تنكر أحد الزوجين للآخر فأهمل في واجباته وحقوقه حصل الخصام والشقاق حتى يصل الأمر إلى الفراق والطلاق ، وهذا الذي يفرح به الشيطان ويسعى له .

عباد الله : ومما يجدر التنبيه عليه سماح الكثير من الأسر لأولادهم باستخدام  الانترنت دون رقيب عليهم، والدخول إلى مواقع الفيديو أو وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر والانستغرام ونحوه، وبعض الأسر تعطي أبناءها الصغار أجهزة الآيباد والهواتف الذكية الأجل أن يتخلصوا من إزعاجهم وينشغلوا بما يلهيهم، وهذا خطأ كبير، فمن يفعل ذلك فكأنه يلقي بأبنائه إلى حظيرة الذئاب لنهش فكره وعقله.

كم من حالة ابتزاز جنسي وقع فيها الولد أو البنت بسبب حديثهم مع آخرين لا يعرفونهم، ويطلبون منهم تصوير أجسادهم.

كم من فكر انحرف إلى التطرف والتشدد بسبب محاورة الأبناء للخوارج عبر الألعاب الالكترونية وما يسمى بألعاب الأون لاين ومحاكاة القتل والتفجير، فأعجبوا بأفعالهم ، وأقنعوهم بفكرهم .

كم من حالة وللأسف الشديد وقعوا في الفكر الإلحادي، والكفر بالله تعالى نتيجة الدخول في غرف الحوارات الإلحادية وما يسمى بالأفكار التنويرية، فأنكروا وجود الله وتركوا واستهزؤوا بشعائره.

نحتاج أن نراجع سياساتنا في تربيتنا لأبنائنا، وأن نفرق بين الرعاية والتربية، فتوفير الماديات للأبناء لا يغني عن تربيتهم وتقويم سلوكهم، ومراقبتهم لتحقيق النفع لهم.

إخواني المسلمين : إنَّ ممّا لا يَخْفى على أحدٍ ما للتَّعاون على الخيرِ بينَ الناسِ من أثرٍ محمودٍ على المجتمعِ بأَسْرِه، فهو ممّا أَمَرَنا ربُّنا بِهِ وحثَّنا عليه في كتابِهِ فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

ولا شكَّ أنَّ مِنْ أعظم صورِ التَّعاون على الخيرِ والبرِّ: التعاونَ مع ولاة الأمر -حفظهم الله تعالى- فيما يقومونَ به ويوجِّهونَ إليه من قراراتٍ وتوجيهاتٍ رشيدةٍ؛ يُقْصَدُ بها مصلحةُ العباد وتنميةُ البلاد،ومن صورِ ذلك التَّعاونِ: التعاونُ مع موظَّفي دائرةِ الإحصاءِ على تحقيقِ ما وَجَّهَ به صاحبُ السموِّ حاكمُ الإمارة حفظه الله من القيام بإحصاءٍ شاملٍ لجميع الأفرادِ الذين يعيشون على أرضِ إمارةِ الشارقةِ، يُرادُ به الوصولُ إلى ما فيه سعادةُ العبادِ ورخاءُ البلاد.

فاحْرِصوا -عبادَ الله- على المشاركةِ بصورةٍ إيجابيةٍ لتحقيقِ هذا التَّعدادِ على أكملِ وَجْهٍ وأحسنِ صورة، واحتسبوا الأجرَ والثوابَ مِنَ اللهِ -تعالى- بذلك؛ يَكْتُبُ اللهُ لكمُ الأثرَ الحسنَ في الدنيا والعاقبةَ الطيّبة في الآخرة، إنَّهُ سبحانَهُ جوادٌ كريمٌ سميعٌ مجيبٌ.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق