الخميس، 19 نوفمبر 2015

خطبة الجمعة : خلق الوفاء

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين اعلموا رحمكم الله  أن شريعتنا الإسلامية تحثنا على التخلق بمحاسن الأخلاق في التعامل مع الآخرين، فلن يبلغ المسلم الدرجات العلى في الجنة إلا بأن يؤدي حق الله وحق الناس عليه، ومن الأخلاق التي ورد الترغيب فيها والحث عليها خلق الوفاء. 

فالوفاء من شيم الرجال، وصفات الصادقين الشجعان، ولا يتصف به إلا أهل محاسن الأخلاق، وذلك لأنه خلق يقوم على أساس الصدق والصبر والتواضع، أثنى الله عز وجل على من اتصف به في أقواله وأفعاله،فالوفاء مِنْ عَلاَمَاتِ الصِّدْقِ، وَمَظَاهِرِ التَّقْوَى، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْمُوفِينَ بِالْعَهْدِ فَـقَالَ: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) و قال تعالى :"بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ "  ، ووصف به أهل العقل والحكمة قال سبحانه "إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ"  ووعد من اتصف به بالأجر العظيم قال سبحانه :"وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " . 

أيها المسلمون: حياة المسلم المؤمن تقوم كلها على الوفاء، وفاء مع الله، ووفاء مع الناس، ووفاء مع النفس . 

أما الوفاء مع الله فهو وفاء العبد بالعهد الذي أخذه عليه ربه، وهو عبادته وتوحيده وتطبيق أمره واجتناب نهيه. قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بِالْعُهُودِ ، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَحَرَّمَ ، وَمَا فَرَضَ ، وَمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ " ، وعنه عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِى عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا فَقَالَ: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"  ، ويوم القيامة يذكر الله بهذا العهد من غدر من بني آدم فكفر أو أشرك فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ ؟ قَالَ: فَيَقُولُ نَعَمْ. قَالَ فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِى ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بى شَيْئاً فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ ». 

فعلى قدر توحيد العبد لربه وطاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر يكون وفاؤه لعهده مع الله، يزيد بزيادته وينقص بنقصانه. 

جماعة المسلمين: والوفاء يكون كذلك مع الناس، وهو باب واسع جدا في حياة المسلم، به يظهر حسن خلقه، وجودة معدنه. 

ومن أولى الناس بهذا الوفاء الوالدان، وذلك بطاعتهما والإحسان إليهما في حياتهما وبعد مماتهما، قال تعالى :"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا " ، وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ قَالَ بَلَى. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَةَ - قَالَ - اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِىَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّىَ ». وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ.

ومن الوفاء بين الناس الوفاء بين الزوجين، فهما من أكثر الناس عشرة وطول مصاحبة، ومن صور الوفاء بين الزوجين وفاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لزوجته خديجة رضي الله عنها، التي واسَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بمالها، ورُزِق منها الوَلَد، وأوّلُ من صدَّقه وآمن به من النساء، وهِي التي ثبَّتَت فؤادَه عند نزولِ الوحي، وقوَّتْ عزيمتَه، وكانت خيرَ زوجةٍ لزوجِها في حياتها. قال ابن حجر رحمه الله: "كانت حريصةً على رِضاه بكلّ ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قطّ". فقابَل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاءَها بوفاءٍ أعظَمَ منه، فكان في إحسانها يشكُرُها، وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها ويقول عنها: ((إني رُزِقتُ حبَّها)). وربما ذبح الشاةَ ثم يُقطِّعها أعضَاء، ثم يبعثها في صَدائقِ خَديجة، ويقول: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد)). قال النوويّ رحمه الله: "في هذا كلِّه دليلٌ لحُسنِ العهدِ وحِفظِ الوُدّ، ورعايةِ حُرمة الصّاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب". 

وكذلك الزوجة وفية لزوجها، فتحفظ عرضه من أن يدنس، وماله من أن يضيع، وبيته فلا تدخل فيه في غيبته من لا يرضى، تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، ولا تخالفه في نفسها ومالها . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ قَالَ « الَّتِى تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ وَلاَ تُخَالِفُهُ فِى نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ ». 

ومن الوفاء بين الزوجين تنفيذ الشروط التي تكون بين الزوجين قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ " 

ومن صور الوفاء بين الناس الوفاء للعالم، وخصوصا الذي له فضل عليك في تعليمك، قال الطحاويّ رحمه الله: "وعلماءُ السّلَف من السابقين ومن بعدهم أهلُ الخبر والأثر وأهلُ الفقه والنظر لا يُذكَرون إلا بالجميل". قال الإمام أحمدُ رحمه الله: "ما بِتُّ منذ ثلاثين سنَة إلا وأنا أدعو للشافعيّ وأستغفر له". 

عِبَادَ اللَّهِ: لاَ تَقُومُ تعاملات النَّاسِ فيما بينهم بِغَيْرِ الْوَفَاءِ، فَإِنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى التَّعَامُلِ وَالتَّعَاوُنِ، وَلاَ يَتِمُّ تَعَاوُنُهُمْ إِلاَّ بِمُرَاعَاِة الْعُهُودِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْوُعُودِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى الْوَفَاءِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَحَثَّ عَلَى الْوَفَاءِ بِالدُّيُونِ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ». فَتَرْجَمَ الْمُسْلِمُونَ خُلُقَ الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَعَ غَيْرِهِمْ قَوْلاً وَعَمَلاً، فِي شؤونِ حياتهم ومُعَامَلاَتِهِمِ الْمَعِيشِيِّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ وغيرِ ذلك، فَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ فِي نُفُوسِهِمْ، مِمَّا سَاعَدَ عَلَى انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ بِصُوُرَتِهِ الحقيقيَّةِ العَظِيمَة.

ومن صور الوفاء بين الناس الوفاء بين الأصحاب والأصدقاء ويتحقَّقُ بشكر أفعالهم وحفظ أسرارهم ووُدِّهم، والثناء الحسن عليهم، ومَنع وصولِ الأذى إليهم، وبذل الندَى لهم ولأولادِهم.

ومَن صنَع إليك معروفًا فكافِئْه عليه، فإن لم تجد ما تُكافِئُه فادعُ له فإنه من الوفاء.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه . 


الخطبة الثانية : أيها المسلمون : ومن صور الوفاء بين الناس، الوفاء بالبيعة لولي أمر المسلمين وإمامهم، فالسمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من الأصول الشرعية، ومقصد من مقاصد الدين، دل عليه الكتاب والسنة الإجماع، ولذلك وجبت البيعة له، وحرم نقضها وخلعها . 
قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهُم الله يومَ القيامةِ ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ ، فذكر منهم : ورجلٌ بايع إماماً لا يُبايعه إلاَّ لدنيا ، فإنْ أعطاه ما يريد ، وفَّى له ، وإلا لم يفِ له ) 
وعن نافع مولى ابن عمر- رضي الله عمهما- : قال : لما خلعوا يزيدَ بن معاوية ، واجتمعوا على ابنِ مُطيع ، أتاه ابنُ عمر ، فقال عبدُ الله بنُ مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وِسَادة ، فقال له عبدُ الله بنُ عمرَ : إني لم آتِكَ لأجلسَ ، أتيتُك لأحَدِّثَكَ حديثا ، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : «مَن خَلَعَ يَدا من طَاعةٍ ، لقيَ اللهَ يوم القيامة ، ولا حُجَّة له ، ومن مات وليس في عُنقه بَيْعةٌ : مات مِيتَة جاهليَّة».أخرجه مسلم 

ومن الوفاء لولي الأمر الدعاء له بالصلاح والخير والتوفيق والسداد، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ». أَيْ: تَدْعُونَ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ لَكُمْ .

وَالْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْوَفَاءِ، وَذَلِكَ بِحِرَاسَةِ تُرَابِهِ وَمُنْجَزَاتِهِ، وَصِيَانَةِ حُرُمَاتِهِ، وَالْحِفَاظِ عَلَى مُقَدَّرَاتِهِ، وَالْعَمَلِ عَلَى خِدْمَتِهِ وَتَطْوِيرِهِ، ونَشْرِ الخَيْرِ فيه، ونَفْيِ الشَّرِّ عنه، فَالْمَرْءُ يَتَربَّى فِي أَكْنَافِ وطنهِ، وَينْهِلَ مِنْ خَيْرَاتِهِ

جماعة المسلمين: والوفاء يكون بين الناس في وعودهم التي يتواعدون بها بينهم، وقد حث الله على الوفاء بها ومدح من أوفى بها قال تعالى :"وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ" ، وقال صلى الله عليه وسلم : اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، وَأَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ : اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. 

إخواني في الله : الوفاء صفة جليلة تحمل العبد على مطابقة قوله لفعله، فينفذ وعده، وعقده، ويؤدي عمله بأمانة وإخلاص، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطَيِّبُونَ» .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق