الخميس، 19 مايو 2016

خطبة الجمعة : رفع الأعمال إلى الله

الخطبة الأولى : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى خلقنا لغاية عظمى وهي توحيده وعبادته فقال سبحانه : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ، ووعدنا سبحانه بيوم نرجع فيه إليه لنحاسب على أعمالنا فقال : "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"  وَأَخْبَرَنَا أَنَّهَا سَتُوزَنُ بِمِيزَانِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). وَاسْتِشْعَارُ الْمَرْءِ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِيُحَاسِبَهُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يَجْعَلُهُ يُبَادِرُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ اسْتِعْدَادًا لِيَوْمِ الْعَرْضِ الأَكْبَرِ، ولذلك حثنا سبحانه على المسارعة في الأعمال والاستباق إليها فقال : "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ " 

وَ أَعْمَالُ النَّاسِ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كل يوم، و كُلَّ أُسْبُوعٍ يَوْمَيْ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، ثُمَّ تُرْفَعُ أَعْمَالُ السَّنَةِ كُلِّهَا فِي شَعْبَانَ، وَلِكُلِّ عَرْضٍ حِكْمَةٌ، أما العرض اليومي فروى مسلم عَنْ أَبِى مُوسَى –رضي الله عنه- قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ " ، وَيَسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَلاَئِكَتَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»، وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى لِيُبَاهِيَ بِهِمْ مَلاَئِكَتَهُ، فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَخَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ؛ لأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِمَا أَدَلُّ عَلَى الإِخْلاَصِ؛ لِكَوْنِهِمَا وَقْتَ اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ. 

وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ:( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أَيْ: إِنَّ صَلاَةَ الْفَجْرِ تَشْهَدُهَا مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ. وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَخَصَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى -وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ- بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ فَقَالَ تَعَالَى:( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). 

فَمَنْ أَدَّى صَلاَتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ حَازَ الأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَاسْتَحَقَّ جَنَّةَ النَّعِيمِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ». 

فَيَا فَوْزَ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ فَبَاهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلاَئِكَتَهُ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى.

عِبَادَ اللَّهِ: وَتُعْرَضُ الأَعْمَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عرضا أسبوعيا في يَوْمَيْ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُمَا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه ليومي الإثنين والخميس قَالَ:« ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». 

أَيُّهَا الْمُصَلُّونَ: وَتُرْفَعُ أَعْمَالُ الْعَامِ كُلِّهِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سَبَبَ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ أَنَّهُ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، قال ابن رجب –رحمه الله- : وفيه دليل على استحباب عمارة أزمان غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب إلى الله عز وجل . 

فاجتهدوا رحمكم الله في طاعة ربكم، فإنكم في مواسم عظيمة ، تكثر فيها الأعمال وتضاعف فيها الأجور،  فَيَا فَوْزَ مَنِ اغْتَنَمَ مَوَاسِمَ الْخَيْرِ، فَاسْتَغْفَرَ وَأَنَابَ، وَسَارَعَ إِلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، لِيَفُوزَ بِالْجَنَّاتِ. فَاللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَاتِنَا، وَطَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ أَجْمَعِينَ .


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : لقد ورَدَ فِي فضل ليلةِ النّصْفِ مِن شعبانَ مِن طُرُقٍ كثيرةٍ أحاديثُ صحَّحَها بعض أهلُ العِلمِ ومن ذلك ما وَرَدَ عنْ معاذٍ بنِ جبلٍ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يطَّلعُ اللهُ إلى جميع ِخلقِهِ ليلةَ النصْفِ مِن شعبانَ، فَيَغْفِرُ لِجَميعِ خَلْقِهِ إلا لِمُشْرِكٍ أوْ مُشاحِنٍ))،وعن أبِي ثعلبةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يَطَّلعُ اللهُ إلى عبادِهِ ليلةَ النصْفِ مِن شعبان، فيغفرُ للمؤمنين، ويُمْهِلُ الكافرين، ويدعُ أهلَ الحقد بِحِقدِهم حتى يَدَعُوه))

فهذه الأحاديث - أيها المؤمنون - فيها إثباتُ مغفرةِ الله تعالى فِي ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ لِعبادِهِ إلا لِمُشْرِكٍ بأيِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الشِّرْكِ ولِمُشاحِنٍ بينه وبين أخيه هجران وقطيعة.  

والشرك أمره عظيم جدا، خافه الأنبياء والصالحون، فقال إبراهيم عليه الصلاة السلام: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ" قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. ، وخافه النبي صلى الله عليه وسلم على صحابته فقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: (يَا أَبَا بَكْرٍ لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر؟ قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ قَالَ: (قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لما لا أعلم).

فعلينا أن نحاسب أنفسنا ونتوب إلى الله من شرك وقعنا فيه بجهل، ومن الشرك الحلف بغير الله، ومن الشرك الذهاب للسحرة والكهان، ومن الشرك الرياء وفعل الطاعات لأجل ثناء الناس، ومن الشرك الاستعانة بالجن والذبح لهم.

 أما الصِّنفُ الآخَرُ الذين حُرِمُوا تلكَ الليلةَ مِنْ تكفيرِ السيئاتِ ومَغفرةِ الذنوبِ فَهُمْ الْمُشاحِنُونَ وأهلُ الحقدِ؛ وهذا يدُلُّ على خطورةِ الشحناءِ والتباغُضِ بين المسلمين، فاحْرِصُوا عَلَى سَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَصَفَاءِ الْقُلُوبِ.

وَيَدْخُلُ في قوله صلى الله عليه وسلم: «أو مُشَاحِنٍ»: مخالفةُ سَبيلِ المؤمنينَ بالإعراضِ عن سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والخُرُوجِ عَنْ هَدْيِهِ، قالَ الإمامُ الأوزاعيُّ: المشاحِنُ كلُّ صاحِبِ بِدْعَةٍ فارَقَ عليها الأُمَّةَ.اهـ.

ولا شَكَّ أنَّ طريقَ الإحْداثِ في الدِّينِ عاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ سَيِّئَةٌ على صاحِبِهِ، فَقَدْ يَصِلُ به الحالُ إلى الحِقْدِ على السُّنَّةِ وأَهْلِها، وَكذلكَ مَنْ نَقَلَها إِلَيْنا مِنْ صَحَابةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعيدٍ: مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلا غَلَّ صَدْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمين.اهـ، وقد تَتَشَرَّبُ البِدَعُ قَلْبَ العَبْدِ –والعِياذُ بِاللهِ-؛ حَتَّى تَصِلَ إلى حَمْلِهِ عَلَى اسْتِباحَةِ أَعْراضِ المـُسْلِمِينَ وأَمْوالِهم ودِمائِهِم، قال ابنُ ثَوْبانَ: المشاحِنُ: هو التَّاركُ سُنَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، الطَّاعِنُ على أُمَّتِهِ، السَّافِكُ دِماءَهُم.اهـ.

فأفضلُ الأعمالِ: سَلامَةُ الصَّدْرِ مِنْ أَنْواعِ الشَّحْناءِ كُلِّها، وَأَفْضَلُها: السَّلامَةُ مِنْ شَحْناءِ الأَهْواءِ والبِدَعِ التي تُوْدِي بِأَهْلِها إلى الطَّعْنِ على الصَّحابَةِ رضيَ الله عنهم وبُغْضِهِمْ والحِقْدِ عَلَيْهِمْ، ثم يَلِي ذلكَ: سَلامَةُ القَلْبِ مِنَ الشَّحْناءِ تُجاهَ مَنْ يتَّبعُ سَبِيلَهُم مِنَ المؤمنينَ، وإرادةُ الخَيْرِ لهم وإعانَتُهُم عليه، وَالنَصِيحَةُ لَهُم، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعالى المؤمنينَ بِأَنَّهُمْ يَقُولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) .

ومن الشحناء الهجر الذي يقع بين المسلمين، فلا يكلم الأخ أخاه أو عمه وخاله أو صديقه وصاحبه، قال صلى الله عليه وسلم : لا يَحلُ لمُسلمٍ يُصارم مُسلماً –أي يهجر- فَوق ثلاثِ ليالٍ، فإنَّهُما مَا صَارمَا فَوق ثلاثِ ليالٍ فَإنَّهُمَا نَاكِبان عَنِ الحَق مَا دَامَا عَلَى صَرامِهما، وَإِنَّ أَولَهُما فَيئاً يَكون كَفارةً لَه سَبقُهُ بِالْفَيْءِ، وَإِنْ هُما مَاتا عَلى صِرامِهما لَم يَدخلا الجنَّة جَميعاً " 



هناك تعليق واحد: