الخميس، 5 يناير 2017

مقال: دور الخطاب الديني المعتدل في الإصلاح و علاج الفكر المنحرف ( ج 1 )

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد ..

فمن المعلوم قطعاً عند كل مسلم أن الله – سبحانه وتعالى- قد ختم بشريعة الإسلام جميع الشرائع السابقة، وختم برسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم – جميع الرسالات فلا نبي ولا رسول بعده.

 ولكون هذه الشريعة هي الخالدة إلى قرب قيام الساعة جعلها الله – سبحانه وتعالى- صالحة ومصلحة لجميع الأفراد والمجتمعات، على مدى الدهور والأعصار، مهما تطاول الزمان وتطورت الحياة وتغيرت.

لذلك جاءت نصوص الشريعة من كتاب وسنة تأمر العباد باتباعها وعدم مخالفتها، ووعدهم ربهم – سبحانه وتعالى- بالسعادة في الدارين، وتوعد من خالفها بالذل والمهانة والشقاء في الدارين، قال تعالى : " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى"  [طه:123-126] .

وبين - صلى الله عليه وسلم – أنّ اتباع هدي الكتاب والسنة سبب لتحقيق الهداية والخروج من الخلاف مهما عظم، فقال: " تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ " رواه مالك والدارقطني.
ولذلك كل من أراد الصلاح والإصلاح، وقمع الفساد والإفساد فلن يجد غير الهدي الرباني كوسيلة لتحقيق هذه الغاية .

بل كل وسيلة تعارض الشرع الحكيم فإنها سبب في الفساد والإفساد، وإن رآها بعضهم ذات نفع،  وإلا لما منعها الشرع وحرمها، فالمقصد من التشريع هو الأمر بكل ما فيه صلاح وإصلاح، والنهي والمنع عن كل ما فيه فساد وإفساد.

ومن الإشكالات التي عالجها الشرع الحنيف مشكلة الانحرافات العقدية والفكرية، حيث أخبر الله عن وقوعها،  وطرق الوقاية منها، وحذر من أسبابها، وبين طرق علاجها في حال وقوعها.

والانحراف العقدي والفكري قديم الوقوع منذ عهد نوح عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه : " "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ،إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " [هود:118-119 ] ، بل هو من الابتلاء الذي جعله الله – سبحانه وتعالى- في الأرض، ليمحض الصادقين من الكاذبين، قال سبحانه: "الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. " [العنكبوت:1-3].

ومن فضل الله على هذه الأمة أن بين لها سبيل الخلاص من هذا الانحراف والاختلاف، عن طريق الخطاب الديني المعتدل المبني على اتباع الوحي، فقال سبحانه : "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [آل عمران:101]، والنبي - صلى الله عليه وسلم – بيّن سبيل النجاة من الانحرافات العقدية والفكرية في غير ما حديث، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ" رواه أبوداود . 

فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم – الداء وهو الافتراق والاختلاف، ثم ذكر الدواء وهو اتباع سنته وهديه، واتباع سنة وهدي الصحابة من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، والحذر من البدع والمحدثات. 

فمن أراد النجاة من هذه الاختلافات العقدية والفكرية فلا بد أن يتضمن خطابه وحواره مع المنحرفين هذا المنهج النبوي، فإنه كفيل بحماية العباد وصيانة عقيدتهم وفكرهم، لذلك قال الزهري –رحمه الله- : السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك . 

والصحابة رضوان الله عليهم بادروا إلى استعمال خطاب ديني قائم على تطبيق هذا المنهج الشرعي عند الاختلافات والفتن فنجوا، ومن أعرض عنه هلك .

ومن ذلك ما رواه الدارمي عن عَمْرو بْن يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟  
قُلْنَا: لاَ .
فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفاً أَمْراً أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ خَيْراً. 
قَالَ: فَمَا هُوَ؟ 
فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ - قَالَ - رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْماً حِلَقاً جُلُوساً يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِى أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً.
 قَالَ : فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ 
قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئاً انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ. 
قَالَ: أَفَلاَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ.
ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِى أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟
قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ. 
قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِى نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِي بَابِ ضَلاَلَةٍ.
 قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ. 
قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْماً يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِى لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ. 
ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ. رواه الدرامي .

فتأمل – أخي القارئ الموفق- كيف زين الشيطان للناس الابتداع في أمر دينهم، إذ أظهر لهم البدعة في صورة عبادة يتقربون بها إلى الله، وفي حقيقتها انحراف في الاعتقاد والسلوك.

والصحابة رضوان الله عليهم رجعوا في تقويم هذا الانحراف إلى أهل العلم، لأنهم الأقدر على معرفة الخطأ وتصويبه والطريقة المناسبة لذلك. 

فلما عرض الأمر على الصحابي الجليل العالم عبد الله بن مسعود، خاطبهم وحاورهم  بأسلوب تضمن المنهج النبوي في العلاج، فرد الانحراف العقدي والفكري إلى السنة وأقوال الصحابة، فقال لهم ابن مسعود رضي الله عنه: "هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم -  مُتَوَافِرُونَ وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِى نَفْسِى فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِي أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِي بَابِ ضَلاَلَةٍ".
   
ولما ناظر ابن عباس -رضي الله عنهما- الخوارج ليعالج انحرافهم العقدي والفكري استند في خطابه الديني معهم على المنهج النبوي فقال لهم : "جئتكم من عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله"  أخرجه عبد الرزاق في المصنف. 

ثم سار العلماء الربانيون رحمهم الله على ذات المنهج، يعالجون الانحرافات العقدية والفكرية بخطاب ديني معتدل، أساسه كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وطريقة الصحابة وهديهم.

 فهذا هو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله- لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن، وهي انحراف عقدي خطير، اتبع ذات المنهج في خطابه الديني فكان يقول لهم: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أقول به. ينظر : سير أعلام النبلاء (11/ 247)

ولكن أهل الأهواء لا يرتضون بهذا المنهج، فكان أحمد بن أبي دؤاد – رأس الفتنة – يقول للإمام أحمد :  أنت لا تقول إلا ما في الكتاب أو السنة ؟ " ، معترضاً على المنهج النبوي الذي سلكه الإمام أحمد -رحمه الله- في خطابه وحواره، فماذا كانت النتيجة ؟
نصر الله الإمام أحمد –رحمه الله- لاتباعه المنهج النبوي السليم في علاج الانحراف العقدي والفكري، وخذل الله رأس الفتنة ورد كيده في نحره .

ومن الأمثلة التي تبين سلامة الخطاب الديني المعتدل القائم على المنهج النبوي في علاج الانحرافات العقدية ما ورد في مناظرة شيخ كبير عالم لأبن أبي دؤاد في فتنة خلق القرآن بحضرة المعتصم، إذ قال المعتصم لابن أبي دؤاد: سلْهُ. 
فقال الشيخ: المسألة لي، تأْمُره أن يجيبني، فقال: سل.
فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد يسأله فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ 
قال: لا! 
قال: فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بعده؟
 قال: لا! 
قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعدهما؟ 
قال: لا! 
قال الشيخ: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم؟ 
قال: لا! 
قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعدهم؟ 
قال: لا! 
قال الشيخ: فشيء لم يدعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم تدعو أنت الناس إليه ؟! 
ليس يخلو أن تقول: علِموه أو جهِلوه؛ فإن قلتَ: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا وإياك ما وَسِع القوم من السكوت، فإن قلتَ: جهِلوه وعلِمتُه أنا، فيا لُكَعُ بن لكع! يجهل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئا وتعْلمه أنت وأصحابك؟! . روى القصة الذهبي في السير والآجري في الشريعة وابن بطة في الإبانة.

فهذا الشيخ العالم استعمل في  علاج الانحراف العقدي الخطاب الديني القائم على السنة النبوية وهدي الصحابة – رضوان الله عليهم- فقُطع ابن أبي دؤاد، وكانت النتيجة ما ذكره الذهبي بقوله : " وسقط من عينه –يعني الخليفة- ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعدها أحداً . " السير (10/309) ، والأمثلة في هذا الباب يكثر ذكرها. 

فالخطاب الديني المعتدل القائم على النصوص الشرعية، والاستدلال الصحيح، وفهم السلف الصالح هو أفضل طريقة يمكن للأفراد والدول استعمالها لعلاج جميع الانحرافات، عقدية كانت أو فكرية. 

سأستكمل الكلام على دور الخطاب الديني المعتدل في الإصلاح في المقال القادم بإذن الله .

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه

هناك تعليق واحد: