الخميس، 9 يناير 2014

المنة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى : اعلموا رحمكم الله ، أن الله جل وعلا بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من انقطاع الرسل ، وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبيل مبعثه ، والناس في ذلك الوقت أحد رجلين : إما كتابي معتصم بكتاب مبدل منسوخ أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك ، وإما أميّ من عربي أو أعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك قال تعالى : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" فمنّ الله على هذه الأمة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخرجهم من ظلمات الجهل والشرك إلى نور التوحيد والهداية قال تعالى:" رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" وقال الله في بيان عظيم فضله علينا ببعثة صلى الله عليه وسلم " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" أي شديد الرأفة والرحمة بهم ، أرحم بهم من والديهم . ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق ، وواجب على الأمة الإيمان به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، أكمل الله به الدين ،فقد أخرج الطبراني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال " تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحية في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم " 

فكان حقا على كل مسلم من هذه الأمة أن يعرف لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه حقه من الإيمان به وطاعته وتقديم محبته على محبة النفس والأهل والمال والناس أجمعين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ».   وهذه المحبة تقتضي التعرف على سيرته صلوات الله وسلامه عليه من اسمه ونسبه وأخلاقه ومبعثه وهجرته وغزواته وسراياه، قال ابن القيم " اضطرار العباد إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فوق كل ضرورة " ا.هـ . ففي سيرته صلوات الله وسلامه عليه من العبر والعظات ما يكون منهجَ حياة وطريقَ هداية وسلامة قال تعالى "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"

جماعة المسلمين : لما عرف الصحابةُ رضوانُ الله عليهم هذه النعمة ,وهي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أحبوه أكثر من الولد والمال والنفس والناس أجمعين وتسابقوا في تطبيق سنته والعمل بها . 
كيف لا والله أمرهم بذلك فقال سبحانه:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"  قال المفسر عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية (فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي . وفي هذا ، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله ، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا من كان  ) ا.هـ

 فأين مثقفوا هذه الأمة من هذا الأدب الرفيع وهم يردون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بحجة أنها لا تتوافق مع عقولهم المستنيرة بظلمة الهوى والضلال ،أو أنها تخالف أراء مفكريهم ومنظريهم،  أو أنها لا تصلح لهذا الزمان الذي ساد فيه التطور وغلبت المادة وضاع فيه الدين ، يقول الشافعي رحمه الله : أجمع المسلمون على أنَّ من استبان له سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ له أن يدعها لقول أحد " وقال أحمد رحمه الله : " من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة .  "
هذا الرسول الكريم عظمه ملوك النصارى وكبراؤُهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأحبوا رؤيته وتمنوا خدمته قال هرقل عظيم الروم : " لو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمية" 

أيها المسلم، إن من محبة المسلم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وتعظيمه له ، اتباعُ سنته ولزومُها والتمسكُ بها ، ففيها النجاةُ من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن مالك بن أنس – رحمه الله –قال :" سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولاة الأمر بعده سننا ، الأخذ بها اتباع لكتاب الله ، واستكمال بطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرُها ولا تبديلُها ولا النظرُ في شيء خالفها ، من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا " أ.هـ

ولقد ورد الأمر باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن وفي الحديث ، فمن ذلك قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" ، قال أهل التفسير  ( يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول أي الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه والاجتناب لما نهيا عنه والانكفاف عنه والنهي عنه  ، وقوله (إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام   "  

وعن الْعِرْبَاضُ  قال : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ . 

فذكر صلى الله عليه وسلم الداء والمرض وهو الافتراقُ والتنازع ، ثم ذكر العلاج فقال : فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ "  فجعل كلمته هذه وصيةً لأمته من بعده ، ليتمسكوا بها ويعملوا بها .
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة "  



الخطبة الثانية : اعلموا رحمكم الله أن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم الكفاية لمن أراد الهداية ، فيسعنا ما أمر به وفعله ، دون تكلف وغلو، قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتكم ) أي كفيتم مؤونة التشريع وبقي عليكم العمل  . 

ومن خالف السنة والهدي النبوي فإنه معرض للافتتان في الدنيا، والعذاب في الآخرة، قال تعالى:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ، وقال سبحانه:" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا "  

وأما في أرض المحشر فإنه يُصد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، قال صلى الله عليه وسلم : إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي ومِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ  " وكانَ ابنُ أبي مليكةَ راوي الحديثِ يقولُ: اللهم إنا نعوذُ بكَ أنْ نرجعَ على أعقابِنا أو نفتنَ في ديِننا.

قال ابن عبد البر في التمهيد – وهو من علماء المالكية-: "وكلُ من أحدثَ في الدينِ ما لا يرضاه اللهُ ولم يأذنْ به اللهُ فهو من المطرودينَ عنْ الحوضِ المبعدينَ عنه، واللهُ أعلم. وأشدُّهم طردًا من خالفَ جماعةَ المسلمينَ وفارقَ سبيلَهم مثلُ الخوارجِ على اختلافِ فرقِها والروافضِ على تباينِ ضلالِها .. فهؤلاء كلُهم يبدلونَ، وكذلكَ الظلمةُ المسرفونَ في الجورِ والظلمِ وتطميسِ الحقِ وقتلِ أهلِه وإذلالهِم، والمعلنونَ بالكبائرِ المستخفّونَ بالمعاصي، وجميعِ أهلِ الزيغِ والأهواءِ والبدعِ، كلُ هؤلاءِ يُخافُ عليهم أن يكونوا عُنُوا بهذا الخبرِ" اهـ.

وأخبرنا الله عز وجل عن أهل النار إذا هم دخلوها كيف أنهم يتأسفون على ترك طاعتهم لله ولرسوله، وأن سبب هذا الإعراض عن حكم الله وحكم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو إتباع آراء أحبارهم ومفكريهم مع مخالفتها لحكم الشرع،  قال تعالى:" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ترك سنته وهديه سبب لوقوع الذل في المسلمين، روى احمد في المسند قول رسولنا صلى الله عليه وسلم : وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " و أخبر صلى الله عليه وسلم عن هلاك وضلال من خالف هديه وسنته، فقال صلى الله عليه وسلم : إني تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 

فالواجب على المسلم الذي يرجو الله واليوم الآخر، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم ويعظمه أن يقدم قول الله وقول رسوله وأن ينظر في فهم سلف الأمة وعلمائها لنصوص الشرع، ولا ينفرد بفهم خاص، أو يتعصب لرأي أيا من كان إذا خالف حكم الشرع وأقوال العلماء السابقين قال الإمام مالك بن أنس: كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر" وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم . 

فعظموا نبيكم وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه وصدقوا خبره واعبدوا الله بشرعه وهديه تكونوا من أهل الفلاح في الدنيا والآخرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق