الخميس، 27 فبراير 2014

خطبة جمعة : من أخلاق المسلم - الستر -

الخطبة الأولى : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الإِنْسَانَ وَكَرَّمَهُ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلاَئِكَتَهُ وَنَعَّمَهُ، وَأَحْسَنَ تَصْوِيرَهُ وَرَزَقَهُ، وَأَمَرَهُ بِسَتْرِ عِرْضِهِ وَبَدَنِهِ، وَهَيَّأَ لَهُ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ وَيُوَارِي سَوْءَتَهُ، قَالَ تَعَالَى:" يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً" فَالسَّتْرُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي امْتَنَّ بِهَا عَلَى الإِنْسَانِ، وَبِهِ يَشْرُفُ قَدْرُهُ، وَتَعْلُو مَنْزِلَتُهُ، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْعَلِيِّ الْقَدِيرِ، فَرَبُّنَا جَلَّ فِي عُلاَهُ يُحِبُّ السَّتْرَ إِذْ وَصَفَهُ رسولنا صلى الله عليه وسلم  بأنه حَييٌّ سِتِّيرٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ) والستير: هو الساتر الذي يستر على عباده، ولا يفضحهم في المشاهد، على ما يفعلونه من المعاصي والآثام، فيستحي من هتكهم وفضيحتهم وإحلال العقوبة بهم، بل يقيض لهم من أسباب الستر ويوفقهم للندم والتوبة ويعفو عنهم ويغفر لهم قال تعالى : "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "

ومن ستر الله على عبده قول نبينا صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ»

أيها المسلمون : السَّتْرُ فَضِيلَةٌ وَأَدَبٌ وَسِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيراً، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَىْءٌ، اسْتِحْيَاءً مِنْهُ) ، وَكَانَ مِنْ دَأْبِ النَّبِيِّ r أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى قَائِلاً:( اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي) فهذا الدعاء فيه طلب الستر من الله عز وجل، والمراد بالعورات عيوب الإنسان وتقصيره وكل ما يسوؤه ويدخل في ذلك الحفظ من انكشاف العورة .
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يَنْهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَاتِ الآخَرِينَ فَيَقُولُ :« لاَ يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلاَ الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ»، وكذلك لا يجوز أن ينظر الرجال إلى عورات النساء ، ولا النساء إلى عورات الرجال.

ولأجل ذلك حثت شريعتنا النساء على لبس الحجاب الشرعي، لأنه يحقق الستر للمرأة، ويحفظها من أعين الطامعين، قال تعالى :" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"

عِبَادَ اللَّهِ: ومن الستر سَتْرُ الْعَوْرَاتِ، وَسَتْرُ الْعَثَرَاتِ، وَكِتْمَانُ الْخَطَايَا وَعَدَمُ نَشْرِ الزَّلاَتِ، فيَسْتُرَ الإِنْسَانُ عَلَى عُيُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ، فَلاَ يُجَاهِرُ وَلاَ يُفَاخِرُ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» ، فَالْمُجَاهِرُ بِالذَّنْبِ مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَا أَنَا أَعْصِي الإِلَهَ وَلاَ أَخْشَاهُ، وَأَفْعَلُ مَا أَشَاءُ وَأَتَمَنَّاهُ.

وَالْمَجَاهَرَةُ بِالذَّنْبِ -يَا عَبْدَ اللَّهِ-  دَعْوَةٌ لِلآخَرِينَ لِيَسْلُكُوا مَسْلَكَ الْمُذْنِبِينَ، فَيُقتَدي بهم في فعل الفواحش والمنكرات، فَيَكُونَ عَلَى الْمُجَاهِرِ إِثْمُهُ وَإِثْمُ مَنْ تَبِعَهُ وَقَلَّدَهُ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْمَجَاهَرَةِ بِالذَّنْبِ عَظِيمَةً، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا"

وَمَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَسَتَرَ عَلَى زَلاَّتِهِ حَفِظَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْفَضِيحَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :( لاَ يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)



الخطبة الثانية: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَالنَّاسُ مُعَرَّضُونَ لِلْخَطَإِ وَالْخَلَلِ، وَالضَّعْفِ وَالزَّلَلِ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ سَتَرَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَضَّ الطَّرْفَ عَنْ زَلاَّتِهِمْ، وَقَوَّمَ أَخْـــطَاءَهُمْ بِالنُّصْـــــحِ وَلَمْ يَفْضَحْهُمْ، قَالَ رَسُـــــــولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» ، فالستر مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.

وَإِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ سَعَى فِي نَشْرِ أَسْرَارِ غَيْرِهِ وَإِعْلاَنِ مَسَاوِئِهِ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَاقِبَةِ أَقْوَامٍ قَعَدُوا يَتَرَبَّصُونَ أَخَطَاءَ غَيْرِهِمْ وَيَحْصُونَ عَلَيْهِمْ عُيُوبَهُمْ بلا سبب شرعي يدعو لذلك، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ( يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)

ومن شرار الناس كذلك من ينشر سر بيته وأهله، قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ شَرَّ اَلنَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اَللَّهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ; اَلرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى اِمْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ , ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" ، وأخص ما يجب ستره العلاقة الزوجية فلا يجوز نشرها والكلام عنها مع الأصحاب .

أخي المسلم: وَإِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَقْصِدُكَ النَّاسُ لِعِلاَجٍ أَوْ مَشُورَةٍ أَوْ نُصْحٍ أَوْ تَوْجِيهٍ فَيُفْضُونَ إِلَيْكَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُشْكِلاَتٍ، أَوْ ذُنُوبٍ وَزَلاَّتٍ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِمْ أَسْرَارَهُمْ، وَلاَ تَذْكُرْهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ، لأَنَّهُ مِنْ هَتْكِ الأَسْتَارِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ» وقال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ " والأمانة لا يجوز تضييعها، وحفظها من صفات المؤمن، قال تعالى : "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ"

عباد الله : اعلموا رحمكم الله أنه يجب ذكر من انحرف عن الشرع بأن ابتدع بدعة وأحدث في دين الله ما ليس منه، ببيان الخطأ والرد عليه، حماية لدين الله تعالى، ولا يعتبر ذلك من الغيبة المذمومة، بل فاعل ذلك مأجور إن اخلص النية، فحرمة الدين أعظم من حرمة الأشخاص إذا هم انتهكوا حرمة الدين، قال الحسن البصري : ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة " وقيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل" ، وقال ابن تيمية: " أَئِمَّةُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ "

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق