الجمعة، 8 مايو 2015

خطبة: الإحسان في العمل

جماعة المسلمين : قال الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل:"وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"يأمر الله عباده المؤمنين بأعلى مراتب الدين وهو الإحسان، فأهل الإحسانِ هم الفائزون بمحبة الله تعالى، هم السعداء بمعية الله تعالى ورعايته ولطفه قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ " موعودون بأعظم النعيم قال تعالى :" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ "  

عباد الله : للإحسانِ مفهومٌ خاصٌّ يشملُ الإحسانَ الذي هو أفضلُ منازلِ العبودية كما قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ» ، وله مفهومٌ عامٌّ يعني الإنعامَ على الغير، والإحسانَ في الأفعال كلِّها بالإتقانِ والإكمال من أعمال الدين أو الدنيا. 

وقوله تعالى : "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" يشمل جميع أنواع الإحسان، فيدخل فيه الإحسان بالمال وبالجاه وبالشفاعات و الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، ويدخل في الإحسان أيضا، الإحسان في عبادة الله تعالى،فمن اتصف بهذه الصفات، كان من الذين قال الله فيهم:"لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ" وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.

جماعة المسلمين : الإِسْلاَمَ دِينُ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَرَحْمَةٍ بِالإِنْسَانِ، أَتَى بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، وَمِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالْفَلاَحِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَغَرَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمَ فِي النُّفُوسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :«كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ». 

ومن صور الإحسان الإحسان إلى الوالدين والأرحام والأقارب، قال تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " وعن عَبْدَ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا قَالَ فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا " 

وللإحسان صور كثيرة منها الإحسان إلى الأبناء ، عن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:« إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ». فَيَا لَهُ مِنْ فَضْلٍ عَظِيمٍ، نَالَتْ بِهِ هَذِهِ الأُمُّ الْمِسْكِينَةُ الْمُحْسِنَةُ أَعْظَمَ مَرْغُوبٍ وَأَجَلَّ مَطْلُوبٍ، وَحَظِيَتْ بِدَارِ الْكَرَامَةِ وَالْخُلُودِ،  وقال صلى الله عليه وسلم: من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كنَّ له سترا من النار" 

ومن الإحسانِ العفو عن الحقوق الواجبةِ للإنسان عند غيره، والتنازُل عنها لوجهِ الله - جل وعلا -؛ قال تعالى : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

ومن الإحسان الإحسان إلى الجار قال صلى الله عليه وسلم: " وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما " 

ومن صور الإحسان الإحسان إلى الزوجات في معاملتهن قال صلى الله عليه وسلم: ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" بل وحتى عند فراقهن وطلاقهن أمر الله بالإحسان إليهن فقال : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ " 

ومن صُوَرِ الإِحْسَانِ الإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ، بِالتَّعْبِيرِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، الَّتِي تُرْشِدُ الْحَيْرَانَ، وَتُسَلِّي الْمَحْزُونَ، وَتَحُضُّ عَلَى الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم « الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَمِنَ الإِحْسَانِ: بَذْلُ الصَّدَقَاتِ؛ لِسَدِّ الْحَاجَاتِ، وَدَفْعِ الْكُرُبَاتِ، فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ  فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ- أَيْ يَلْبَسُونَ ثِيَابًا مُشَقَّقَةً- فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى جَمَعُوا كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، فَتَهَلَّلَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:« مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ». 

ومن صور الإحسان الإحسان إلى الحيوان، فعن عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا " وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند ذبح الحيوان فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مُؤَكِّدًا ذَلِكَ أَيْضًا :« فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ».

عباد الله : إنّ الإحسان يقتضي من المسلم ألّا يضيّع وقته هباء، وأن يصرف جهده إلى النّافع من الأمور، فعن الشّريد- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله يوم القيامة –أي شكا بصوت عال مرتفع- يقول: يا ربّ إنّ فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة»

فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَالْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ


الخطبة الثانية : عباد الله : من صور الإحسان الإحسان في حالَ الخُصومات والمُنازَعات؛ الله - جل وعلا - يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53]، ويقول - جل وعلا -: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34].، كما أن الإحسان مطلوبٌ في التحاوُر بين المُسلِم وأهلِ الكتابِ لتَصِلَ المُجادَلَةُ إلى الثَّمرةِ اليانِعَة والمقاصِد المُبتغَاة ، قال تعالى " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .

إخوة الإسلام:والتجَّار ما أحوَجَهم إلى أن يأخُذوا أنفُسهم بمسْلَكِ الإحسان والرحمة؛ بأن يتَّقوا اللهَ - جل وعلا - في المُسلمين، فلا يُقدِموا على الاستِغلال الذي انتشرَ في هذه الأزمان، ولا على الاحتِكار والمُبالَغَة في الأسعار؛ بل الواجِبُ أن يتذكَّروا أن ربًّا عظيمًا يُراقِبُ نيَّاتهم وأقوالَهم وأفعالَهم؛ فعليهم أن يتذكَّروا أن المُسلمين إخوةٌ، وأن المؤمنَ يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، فعليهم أن يُحسِنوا إلى الناسِ، فيربَحوا رِبحًا معقولًا يُبارَك لهم فيه، ويحمَدوا العاقبةَ دُنيا وأُخرى؛ قال - جل وعلا -: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ " 

عباد الله من تأمّل الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الواردة في الإحسان يتّضح بجلاء أنّ الإحسان يشكّل مع العدل- جوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنّ دائرة هذا الإحسان تتّسع لتشمل النّفس والأسرة والأقارب ثمّ المجتمع والإنسانيّة عامّة . 

بل إن الإحسان من أسباب رقي الأمم وتطورها، فلإحسان يقتضي من المسلم إتقان العمل المنوط به، إتقان من يعلم علم اليقين أنّ الله- عزّ وجلّ- ناظر إليه مطّلع على عمله، فيتقن العبد في عمله، ويحسن من أدائه فيرتقي بنفسه وبدولته . 

عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ للهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا , نَزَعَهَا مِنْهُمْ , فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ "

فَيَا سَعَادَةَ مَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ، فَجَادَ بِالْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ، وَأَغَاثَ الْمَلْهُوفِينَ بِالْمِنَحِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، وَأَعَانَ الضُّعَفَاءَ وَالْمُعْوِزِينَ بِالصَّدَقَاتِ، فَفَازَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَحَظِيَ بِحُبِّ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَكَانَتِ الْجَنَّةُ مُسْتَقَرَّهُ وَمَثْوَاهُ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق