الجمعة، 29 مايو 2015

خطبة جمعة :عقيدة المؤمن في أمهات المؤمنين وواجبه تجاههن

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قال الله عز وجل في محكم التنزيل : "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" يخبر تعالى المؤمنين خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فالله قَدْ عَلِمَ شَفَقَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ ونصحَه لَهُمْ، فَجَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكمَهُ فِيهِمْ مُقَدّمًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ فقال :" فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" ، فرسول الله أعظم الخلق مِنَّةً على الناس من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه، ولأجل ذلك كانت محبته صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة كل أحد، قال صلى الله عليه وسلم : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " 

فلذلك، وجب على المؤمنين إذا تعارض مراد النفس أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول وأن لا يعارض قول الرسول بقول أحد كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.

جماعة المسلمين : ومن تعظيم المؤمن للرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمه لزوجاته، لذلك قال سبحانه " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" فاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْرَمَ النِّسَاءِ, وَأَعْلاَهُنَّ قَدْرًا, وَأَجَلَّهُنَّ شَأْنًا، وَأَرْفَعَهُنَّ مَنْزِلَةً، فَجَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَهُنَّ خصائص لَيْسَتْ لِغَيْرِهِنَّ فِي الْفَضْلِ وَالْمَقَامِ؛ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ" 

وفي قوله تعالى " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" تشريف لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وتكريم للمؤمنين بأن جعل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لهم، ومتى قوي اسستشعار المؤمن لأمومة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم له قوي إقباله على القيام بحقوقهن وزاد اهتمامه بما لهن من واجبات، مع دفاعه عنهن. 

ومعنى كون زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين أي في الاحترام والإكرام والتوقير، وتقتضي كذلك تحريمهن على المؤمنين فلا يجوز نكاحهن كما قال تعالى "وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا"  وهي أمومة دينية لا تقتضي التوارث، ولذلك لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بنتاتهن وأخواتهن، بل يعاملن في هذا الجانب معاملة الأجنبية فأمرهن الله بالحجاب، قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" وأمر الصحابة أن لا يسألوهن إلا من وراء حجاب فقال :"وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" والإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب ولا تحتجب عنه.

وإذا تقرر أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم، والمقصود بالأبوة الأبوة الدينية التي تقتضي تربيتهم وإرشادهم لما فيه خيرهم، وعلى المؤمنين طاعته في ذلك، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا وَلاَ يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ » 

 وجاء في قراءة شاذة تقرير ذلك أيضا فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذه الآية:" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم" 

ولا يعارض ذلك قول الله تعالى "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ" فالمنفي في الآية أبوة النسب، والمثبت هو الأبوة الدينية التي تفوق أبوة النسب وتعلوها قدرا وشأنا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:" لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" 

جماعة المسلمين : ولزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصائص تميزن بها فمع كونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله وصفهن بأنهن لسن كأحد من النساء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الصلاة عليهن في الصلاة قبل السلام، وأنهن من اللذين يؤتون أجرهم مرتين كما قال تعالى "وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا" 

وهذه الأحكام المتعلقة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم لا تشمل من طلقهن ولم يدخل بهن كالتي دخل عليها فاستعاذت بالله منه ففارقها.

جماعة المسلمين : فإذا علمنا تلكم المنزلة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فما هو الواجب علينا تجاههن ؟

روى مسلم عن زيد بن أرقم قول النبي صلى الله عليه وسلم:" أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى ». فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ .." فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يوصي الأمة بآل بيته خيرا، ومن أخص الناس بآل البيت زوجاته رضي الله عنهم، ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يدعو لهن ويصلي عليهن وحث أمته على ذلك،فعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِى: أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ قَالَ « قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ».

فيجب علينا محبتهن ومعرفة فضلهن والترضي عليهن، وسلامة الصدر تجاههن من الغل والحقد، قال الإمام أبو عثمان الصابوني في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة " وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن والدعاء لهن ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين" 

كما يجب علينا إحسان القول لهن وسلامة اللسان تجاههن قال الطحاوي في عقيدته المشهورة :" ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذريته المقدسين من رجس فقد برئ من النفاق " 

كما يجب علينا الدفاع عنهن وعن أعراضهن والذب عنهم والرد على كل من ينتقص من قدرهن، مع دراسة سيرتهن ومعرفة أخبارهن وآدابهن فإنهن أعظم النساء قدرا، وأشرفهن فضلا، فهن القدوة لبناتنا وجميع نسائنا.


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين لقد كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَات النبي صلى الله عليه وسلم مَنَاقِبُ جَلِيلَةٌ، وَمَآثِرُ كَرِيمَةٌ، فَمِنْهُنَّ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، أَوَّلُ النَّاسِ إِسْلاَمًا، فَعِنْدَمَا جَاءَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ رَجَعَ فَدَخَلَ عَلَيها وَأَخْبَرَهَا صلى الله عليه وسلم الْخَبَرَ، فَصَدَّقَتْهُ وَآمَنَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً... ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى. فَكَانَتْ لَهُ خَيْرَ سَنَدٍ وَمُعِينٍ، تُؤَازِرُهُ وَتُنَاصِرُهُ، وَقَدْ شَهِدَتْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مَوَاقِفَ شَدِيدَةً، فَثَبَتَتْ وَصَبَرَتْ، وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُدْوَةً رَائِعَةً لِلزَّوْجَةِ الْوَفِيَّةِ، الَّتِي تَقِفُ مَعَ زَوْجِهَا فِي شَدَائِدِهِ، وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهُ فِي مُوَاجَهَةِ الصُّعُوبَاتِ وَالْمُلِمَّاتِ، وَسِيرَتُهَا الْعَطِرَةُ أُنْمُوذَجٌ فَرِيدٌ رَاقٍ لِلزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، الَّتِي تُحَافِظُ عَلَى اسْتِقْرَارِ بَيْتِهَا، وَتَبْذُلُ كُلَّ وُسْعِهَا لإِسْعَادِ أُسْرَتِهَا، وَكَافَأَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ- أَيْ لُؤْلُؤٍ- لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ، وَأَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ أَنْ يُقْرِئَهَا السَّلاَمَ مِنْهُ. 

قال ابن القيّم رحمه الله: "وَهَذِه لعمر الله خَاصَّة لم تكن لسواها" اهـ .. وقال بعض أهل العلم: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة، لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا.." 

وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَفِيًّا لَهَا فِي حَيَاتِهَا وَبَعْدَ مَوْتِهَا، يَذْكُرُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ:« قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ».

وَعَلَى مِثْلِ هَذَا فَلْيَكُنِ الْبَيْتُ الْمُسْلِمُ تَضْحِيَةً وَوَفَاءً، وَبَذَلاً وَعَطَاءً، فَتَعِيشَ الأُسْرَةُ فِي سَعَادَةٍ وَاسْتِقْرَارٍ، وَرَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ. 

عباد الله: وَلَئِنْ سَأَلْنَا عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَهِيَ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، اخْتَارَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ -أَيْ قِطْعَةٍ- مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ». وَكَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ:«عَائِشَةُ». 

وَأَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا مَكَانَتَهَا السَّامِيَةَ، وَدَرَجَتَهَا الْعَالِيَةَ؛ فقَالَ:« فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». وَدَعَا لَهَا صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ». 

وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَوَّامَةً قَوَّامَةً، عَابِدَةً زَاهِدَةً، كَرِيمَةً سَخِيَّةً، وَمِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَفْقَهِهِمْ، فَهِيَ مَرْجِعٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، قَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا.

وَقَدْ وَهَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الذَّكَاءَ وَالْفِطْنَةَ، وَقَدْ جَمَعَتِ الْكَثِيرَ مِنْ أَحْادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُدْوَةً لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْتَهِدُوا وَيَتَحَرَّوْا الْمَصَادِرَ الصَّحِيحَةَ وَالأَفْهَامَ النَّقِيَّةَ، كَمَا أَنَّهَا أُسْوَةٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُتَفَقِّهَةِ فِي دِينِهَا، الْوَاعِيَةِ لِمُتَطَلِّبَاتِ عَصْرِهَا، تَنْفَعُ نَفْسَهَا وَأُسْرَتَهَا وَمُجْتَمَعَهَا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا.

عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنْ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَةُ الرَّأْيِ الرَّشِيدِ السَّيِّدَةُ أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، عُرِفَتْ بِحِكْمَتِهَا، وَسَدَادِ رَأْيِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَضِيعَ أَجْرُهُمْ وَيَنْقُصَ ثَوَابُهُمْ، فَامْتَنَعُوا عَنِ التَّحَلُّلِ مِنَ الإِحْرَامِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ وَتَحَلَّلَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا. فَأَنْعِمْ بِالْعَقْلِ مِنْ نِعْمَةٍ، وَهَلْ تُسَاسُ الأُمُورُ إِلاَّ بِالْحِكْمَةِ؟ فَحَرِيٌّ بِالْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَ العِلْمَ قَائِدَهُ، وَالعَقْلَ رَائِدَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَطْلَبَهُ، فَيَسْعَدَ وَيَهْنَأَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا). وَقَدْ أُوتِيَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ مِنَ الْحِكْمَةِ حَظًّا وَافِرًا؛ فَاللَّهُمَّ ارْضَ عَنْهَا وَعَنْ سَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الأَطْهَارِ الأَبْرَارِ، وَعَنْ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَارْزُقْنَا حُبَّهُمْ وَبِرَّهُمْ وَمَوَدَّتِهِمْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق