الخميس، 21 يناير 2016

خطبة الجمعة : من محاسن الأخلاق النزاهة في الأقوال والأفعال

الخطبة الأولى : جماعة المسلمين أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ الأَخَلاَقِ الْعَالِيَةِ، وَالأَقْوَالِ الْفَاضِلَةِ، وَالْمُعَامَلاَتِ الرَّاقِيَةِ، فَقَدْ حَثَّنَا عَلَى أَنْ نَتَحَلَّى بِأَرْفَعِ الشِّيَمِ، وَأَجْمَلِ الْخِصَالِ وَالْقِيَمِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِيَ الأَخْلاَقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»، ومن الأخلاق العالية التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها خلق النزاهة.

وَالنَّزَاهَةُ مِنْ أَهَمِّ الصِّفَاتِ وَأَجَلِّهَا، وَأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ وَأَكْمَلِهَا، فهي تدعوا  للبُعْدِ عَنِ كل سوء، وَالتَّرَفُّعُ عَنِ كل نقَصٍ. 

وأول من يُنزه عن كل نقص ويُمدح بكل كمال هو الله سبحانه وتعالى، فإن له الكمال المطلق، وله الأسماء الحسنى التي كملت في حسنها، وله من الصفات أعلاها فلا يشابهه فيها مخلوق قال تعالى : "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، وكلما احتوى الذكر على تنزيهِ الله وتمجيدِه كلما ارتفع أجرُه وعلا قدرهُ قال النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ » ، فالتسبيح تنزيه لله تعالى عن كل نقص وسوء، والحمد إثبات الكمال لله تعالى، ولذلك ثقلت هذه الكلمات في الميزان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وإثباتَ المحامد التي يُحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده"

وأهل السنة والجماعة منهجهم في هذا الباب العظيم: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، ولا يتجاوزون في ذلك القرآن والحديث.

 عباد الله : من مجالات النزاهة النزاهة في المال أخذا وإعطاء، وقد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَزَاهَتِهِ وَتَرَفُّعِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ يُتَّبَعُ، وَأَفْضَلَ أُنْمُوذَجٍ يُحْتَذَى؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « إِنِّى لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِى فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِى ثُمَّ أَرْفَعُهَا لآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا ». دل هذا الحديث على أن المسلم يتنزه عن الشبهات وما لا يعلم حكمه من حل أو حرمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التمرة لخشيته أن تكون من الصدقة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تحل له الصدقة، لذا فقد حثَّنا صلى الله عليه وسلم على لزوم جانب الورع، وحَذَّرنا من خَوْضِ غِمار الشُّبهات؛ فقال: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» ، ويقول نبيُّنا صلى الله عليه وسلم مبيّناً الثِّمارَ الطيّبةَ التي يَجْنِيها مَنْ يتَّصفُ بالعِفَّةِ والنَّزاهةِ: «ومن يستعفِف يُعِفَّهُ الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله»

وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ النَّزَاهَةَ، فَكَانُوا نَمَاذِجَ فَرِيدَةً، ومن ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ لأَبِى بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ ، وَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، - أي يأتيه بما يكسبه والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه-  فَجَاءَ يَوْمًا بِشَىْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ تَدْرِى مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ ، إِلاَّ أَنِّى خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِى فَأَعْطَانِى بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِى أَكَلْتَ مِنْهُ . فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَىْءٍ فِى بَطْنِهِ " فدل فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الورع والتنزه عن أكل الحرام، فإن أخذ الأجر على الكهانة محرم، ثم الخديعة في ذلك محرمة، فتغلظ الأمر بأنه خدع في الحرام، فبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى بذل جهده من  كونه أخرج ما حصل في بطنه من ذلك.

وَهَذَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِي لَنَا كَيْفَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّزَاهَةَ في طلب المال فَيَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:« يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَاـ أَيْ: لاَ أُنْقِصُ مَالَ أَحَدٍ ـ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى، وَكَذَلِكَ دَعَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى... فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ. 

وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه، إلى ما لا يريده، فقطعها عن ذلك.

وَكَذَلِكَ مِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ النَّزَاهَةِ التَّرَفُّعُ عَنِ الْمَكَاسِبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَشْبُوهَةِ، وَيُسْتَعَانُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَنَاعَةِ، فَهِيَ كَنْزٌ لاَ يَفْنَى، لِأَنَّ الإِنْفَاقَ مِنْهَا لَا يَنْقَطِعُ، وَكُلَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْقَانِعِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَنِعَ بِمَا دُونَهُ وَرَضِيَ. يَقُولُ صلى الله عليه وسلم :« أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ». 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالطَّهَارَةُ مِنْ صُوَرِ النَّزَاهَةِ، كَطَهَارَةِ الْبَدَنِ مِنْ أَدْرَانِهِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ وَنَزَاهَتِهَا عَنِ النَّقَائِصِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ وَأَوَّلُهُ، وَأَعْلاَهُ وَمُقَدَّمُهُ: طهارة العبد من أدران الشرك، فإن الشرك نجاسة معنوية تصيب القلب والبدن وإنما يكون التنزه منها بتحقيق التوحيد والإخلاص لله تعالى، ممتثلا قوله تعالى: " قل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" 

ثم يسعى المسلم إلى طَهَارَةِ قلبه وَنَزَاهَتِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِ، مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَقَدْ حَذَّرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَحَثَّنَا عَلَى أَنْ نُنَزِّهَ قُلُوبَنَا عَنْهَا، وَوَصَفَ لَنَا دَوَاءَ هَذَا الدَّاءِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ». 
عباد الله : مِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ النَّزَاهَةِ وَأَشَدِّهَا أَثَرًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ النَّزَاهَةُ فِي أَدَاءِ الْوَظَائِفِ ،  وَذَلِكَ بِتَعَفُّفِ الْمُوَظَّفِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ؛ كالتَّعَفُّفِ عَنِ الْمِسَاسِ بِالأَمْوَالِ الْعَامَّةِ، فَهَذَا عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ تُسْرَجُ عَلَيْهِ الشَّمْعَةُ مَا كَانَ فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَإِذَا فَرَغَ أَطْفَأَهَا، وَأَسْرَجَ عَلَيْهِ سِرَاجَهُ. أَيْ كَانَ يُضِيءُ الشَّمْعَةَ الْخَاصَّةَ بِبَيْتِ الْمَالِ طَالَمَا كَانَ فِي قَضَاءِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا انْتَهَى أَضَاءَ مِصْبَاحَهُ الْخَاصَّ بِهِ. 

وَلاَ يُقَصِّرُ الْمُوَظَّفُ النَّزِيهُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ، وَلاَ يُقْدِمُ عَلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَهُوَ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ رِشْوَةً، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ هَدِيَّةً مِنْ وَرَائِهَا مَآرِبُ أُخْرَى .

وَإِنَّ التَّاجِرَ يَتَنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَبِيعَ مَا يَضُرُّ النَّاسَ، وَلاَ يُغْرِيهِ كَثْرَةُ الرِّبْحِ، وَيَقْتَدِي بِالصَّالِحِينَ، وَالتُّجَّارِ الصَّادِقِينَ، فَيَفُوزُ بِبُشْرَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَائِلِ:« التَّاجِرُ الأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَالنَّزَاهَةُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَنْشِطَةِ الْحَيَاةِ، وَكُلُّ مَجَالٍ لَهُ صُوَرُ نَزَاهَتِهِ، وَمَظَاهِرُ عِفَّتِهِ. فَاللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَزَكِّ نُفُوسَنَا، وَاجْعَلْنَا بِالنَّزَاهَةِ قَائِمِينَ .


الخطبة الثانية : إنَّ أعظمَ ما يحثُّ المسلمَ على الاتِّصافِ بالنَّزاهةِ والعِفَّة: حياءه من اطّلاعِ اللهِ العليمِ الخبيرِ عليه وهو يرتكب ما نهاهُ عنهُ وحرَّمه عليه، لذا حثَّنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم  على الحياءِ من اللهِ تعالى، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ!». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ! قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»

ومن أشدِّ ما يَحْملُ الإنسانَ على تَرْكِ لزومِ سبيلِ النَّزاهة والعِفّة: اللسانُ والبطنُ والفَرْج.

فاللسانُ إن لم يتصف بالنَّزاهةِ عن الكذبِ والغِيبةِ والنَّمِيمةِ والخوضِ في الأعراض والتعدّي على المسلمين بالسِّباب والشتم وفاحش الكلام وغير ذلك أَهْلكَ صاحِبَهُ، عن معاذٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بلسانه وقال: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».

والبطنُ إن لم يتصفْ بالنَّزاهةِ عن التَّغذي بالحرام من رِبَاً ورِشوةٍ وسرقةٍ وغُلولٍ وأكل لأموالِ اليَتامى ظُلْماً وغيرِ ذلك أَوْدى بصاحبِهِ سبُلَ الرَّدى، قال تعالى: "وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ، وعن عبد الله ابن عمرٍو رضي الله عنهما قال: لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي .

والفَرْجُ إن لم يتَّصف بالنَّزاهةِ عن الحرامِ أَهْلَكَ صاحبَه وأَرْداهُ، قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ. وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا...[وذكر الحديثَ فكان مما قال:] فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ؛ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا [أي: ارتفعَ زَعِيقُهم واختلط]، قال: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاَءِ؟!... قالا: أَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي...» 

فاتقوا الله عباد الله في أَنْفُسِكُم وأهليكم وعيالكم، واحْرِصوا على تحقيقِ القِيَمِ النَّبيلةِ التي دعانا إليها دينُنا الحنيف، واحذروا التَّرَدِّي في دَرَكاتِ الحرام؛ فإنَّ من وراءِ ذلك فساداً عظيماً للعبادِ والبلادِ، وحساباً عسيراً ونَدَماً كبيراً يومَ المعاد؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق