الخميس، 17 سبتمبر 2015

خطبة الجمعة : فضائل العشر الأولى من ذي الحجة وأحكام الأضحية

الخطبة الأولى : عبادَ الله:  اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الخلق لغاية عظيمة، وهي توحيد الله وعبادته قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فما خلقهم عبثا ولا هملا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ، بل جعل للعباد أجلا يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر قال تعالى : " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " 

وإن من أعظم الخسارة أن يعيش العبد في هذه الدنيا لاهيا عما خلق له، ناسيا ربه، منكبا على متاع الدنيا وزينتها، فيغره الشيطان بطول الحياة، وينسيه الانتقال من هذه الدار إلى دار الحساب والجزاء، قال سبحانه محذرا من ترك العبادة والانشغال بمتاع الدنيا :  (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)

جماعة المسلمين: تطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) .

قال ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها" انتهى

فعلى المسلم أن يبادر إلى الأعمال الصالحات في هذه الأيام من زيادة في النوافل وقراءة القرآن وذكر الله وكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والإعمال الظاهرة والباطنة ، وإن أفضل ما تقرب به العبد من الأعمال فرائض الله قال الله تعالى :"  وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ " 

وإن مما يشرع فعله في هذه الأيّام الصيام ،  روى أبو داود عن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسعَ ذي الحجة " 
وآكد الأيام صياما في هذه العشر يوم عرفة، فإنه يوم مشهود معظم عند أهل السماء والأرض، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه فقال : "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ .

معاشرَ المسلمين، ومن العبادات في هذه العشر الإكثار من التكبير، قَالَ تَعَالَى:( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) قال البخاريّ في صحيحه: (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" 

والتكبيرُ  مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ ، مِن صُبح يومِ عرفة إلى عصرِ آخر أيّام التشريق. 

ومن العبادات في هذه الأيام الدعاء وخصوصا يوم عرفة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم  يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية : جماعة المسلمين : من أنواع العبادات التي تؤدى في هذه الأيام المباركة عبادة النحر وهي الأضحية ، والأضحية كما قال أهل العلم من أفضل العبادات المالية ولهذا جمع الله بينها وبين الصلاة التي هي أجل العبادات البدنية في آية واحدة فقال تعالى " {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) سورة الكوثر 
والأضحية مشروعة عن الأحياء وليس عن الأموات ، ومن الخطأ ما يفعله كثير من الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعا ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء فيتركون ما جاءت به السنة ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية وهذا من الجهل 
وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته ممن تلزمه نفقتهم، فعن أبي أيوب قال ( كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون "  ، و إذا كانت العائلة كثيرة وهي في بيت واحد فيجزئ عنهم أضحية واحدة ، وإن ضحوا بأكثر من واحدة فهو أفضل ، وكذلك لو كان للرجل زوجتان ، كل واحدة في بيت ، فإنه يجزئ عنهم جميعا أضحية واحدة ، وإن زاد فهو أفضل . 

وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة . عن جابر قال :  نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة " . فيجزء سُبع البدُنَه وسُبع البقرة عن الرجل وأهل بيته . 

ويشترط في الأضحية بلوغ السن المعتبرة قال صلى الله عليه وسلم : لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " والمسنة من الإبل ما أكملت خمس سنين ، ومن البقر ما أتمت سنتين ، ومن الغنم ما أتمت سنة . 

كما يشترط في الأضحية السلامة من العيوب والأمراض ، قال صلى الله عليه وسلم : (أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البيِّنُ عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تُنْقِي) والعجفاء:هي الهزيله، التي لا مُخَّ لها لهزالها . 

ومن نوى أن يضحي فيمسك عن شعره وأظفاره قال صلى الله عليه وسلم : (إذا دخل العشر، وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً). وفي رواية: (فلا يمس من شعره وبشره شيئاً)  فإن أخذ من شعره أو ظفره ناسيا فلا حرج عليه .

وأفضل الأضاحي أغلاها وأسمنها ، فروى البخاري تعليقا عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون "

وأفضل وقت للذبح بعد صلاة العيد ، فعن البراء قال خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو شاة لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء " 

ويستمر وقت الذبح إلى مغيب شمس ثالث أيام التشريق وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : كل أيام التشريق ذبح " 

فإذا ذبحها استحب له أن يأكل منها، ويهدي للأقارب والجيران والأصدقاء، ويتصدق على الفقراء؛ لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 

عباد الله: أنبه الأخوة التجار من أصحاب الماشية إلى أن يتعاونوا مع الناس على البر والتقوى فييسروا عليهم في ثمن الأضاحي، لأجل أن يتيسر عليهم شراؤها وذبحها، أما إذا غاليتم في ثمنها كما هو الواقع فإنه من أسباب ترك الناس لهذه الشعيرة العظيمة، واحتسب في ذلك الأجر والبركة من الله.

كما أن بعض الناس يعتقد أن المسلم لا يضحي بأكثر من ثماني أضاحي في حياته ، ويقولون سبع تمشي على الصراط والثامن قائد لها ، وهذا ليس بصواب ، وهو مبني على حديث غير صحيح ( استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط " بل للمسلم أن يضحي بما تيسر له وقدر عليه في حياته.

فاتقوا الله عباد الله ، واغتنموا هذه الأيام الفاضلة فلا يدري الإنسان منا متى يموت قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  " التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ "  . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق