الجمعة، 25 سبتمبر 2015

خطبة جمعة: فضل طلب العلم والقراءة

الخطبة الأولى : اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله سبحانه مدح العلم وأهله وحث عباده على طلبه والتزود منه، فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، ولأجل ذلك جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد منه فقال تعالى : "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" قال ابن القيم " وكفى بهذا شرفا للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه" ، وجعل الله الرفعة لطالب العلم في الدارين فقال سبحانه : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " وهذه الرفعة في الدنيا بسمو المنزلة وعلو الشأن بين الناس ورفعة الآخرة في درجات الجنة، وروى أحمد ومسلم أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى. فقَالَ: وَمَا ابْنُ أَبْزَى؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا – وهو العبد المعتق-. فَقَالَ عُمَرُ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! – مستنكرا- فَقَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: " إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ " ، ومما ورد من الأخبار في رفعة العالم على غيره في الدنيا ما ذُكر في كتاب وفيات العيان أنه قدم هارون الرشيد الرقّة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطّعت النعال وارتفعت الغبرة، فأشرفت أمّ ولد أمير المؤمنين من برجها، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟! قالوا: عالم أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت: هذا والله الملك،لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان" . 

وهذا العلم – إخواني في الله- لا يتحصل إلا بطلبه وتعلمه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " ففي طلب العلم شرف كبير وأجر عظيم قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ" ، وهذا نبي الله موسى عليه السلام لم يمنعه مقامه في النبوة والرسالة من طلب العلم ، ففي الصحيحين قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ " قَالَ مُوسَى: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ ... " فرحل إليه ولما لقيه قال له في أدب : " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا "  ، قال ابن عباس رضي الله عنها: لو كان أحد يكتفي من العلم لاكتفى منه موسى عليه السلام لما قال : " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا " 

ومن طرق طلب العلم وتحصيله القراءة من الكتب، فالقراءةَ هيَ الطريقُ الموصلةُ إلَى اكتسابِ العُلُومِ، والتزوُّدِ مِنَ المعارفِ، وقَدْ حازَتْ فِي الإسلامِ منازلَ الشرَفِ العظيمةَ، ونَالَتْ مَراتِبَ الفضْلِ الجليلةَ، فكانَ الأمْرُ بالقراءةِ هوَ البدايةُ لرسالةِ الإسلامِ، والكلمةُ الأُولَى التِي نزَلَ بِهَا القرآنُ الكريمُ، قالَ تعالَى : "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ،خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ،الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ،عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"

وأعظم أنواع القراءة النافعة تلاوةُ آيات القرآن وتدبُّرُها؛ فإذَا قرأَ المسلمُ القرآنَ الكريمَ مُخْلِصاً في ذلك لله تعالى، حظِيَ بالثوابِ العظيمِ، وارتقَتْ منزلتُهُ فِي جناتِ النعيمِ، قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا). وقد أنثى الله عز وجل في كتابه على من يتلو كتاب الله عز وجل ووعدهم بالأجر العظيم فقال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ " 

والمسلم لا يمل ولا يشبع من تلاوة كتاب ربه سبحانه، لأنه يهديه للتي هي أقوم، وبه حياة قلبه، ونجاته في الدارين، قال ابن القيم: فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية الفاسدة التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة ) 

وأفضل التلاوة ما رافقها تدبر وتفكر في المعاني، قال تعالى : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" ، قال ابن القيم في بيان فضيلة القراءة بتدبر: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر... فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ...، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب"

ومما يعين على التدبر للمعاني قراءة كتب تفسير القرآن، فهي تكشف المعاني، وتجلي المقاصد الربانية، في آياته ومعانيه، وتطلع القارئ على فوائد القصص القرآنية، فأقبلوا على قراءة كتاب ربكم، وتعلموا معانيه، تكونوا من أهل الخير والفلاح في الدارين. 


الخطبة الثانية : ومما يعتني المسلم بقراءته ما ثبتَ من أحاديثِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم  ، وينظر في شروح كتب الحديث وبيان الأحكام التي تستفاد منه . 

ومما يعتني المسلم بقراءته كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسِيَرِ الصحابةِ والعلماءِ والصالحينَ وأقوالِهِم، لِمَا فيهَا مِنَ الدروسِ والعِبَرِ، قِيلَ لابنِ المبارَكِ: يَا أبَا عبدِ الرحمنِ، لَوْ خرجْتَ فجلسْتَ معَ أصحابِكَ، قالَ: إنِّي إذَا كُنتُ فِي المنْزِلِ جالسْتُ أصحابَ رسولِ اللهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يعنِي قراءةَ الكُتبِ التي تتضمَّنُ سِيَرَهُم وأقوالَهم.

وإننا اليوم نعاني من ابتعاد المسلمين عامة، والمثقفين خاصة عن تعلم وقراءة سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده، وهذا من العيب والجهل الذي لا يعذر صاحبه، إذ كيف يجهلون سيرة من جعلهم الله سببا لخروجهم من الظلال إلى الهدى ومن الظلام إلى النور.

وقد أدرك سلفنا رحمهم الله أهمية العلم، فشمَّرُوا عَنْ ساعدِ الجدِّ في تحصيلِ العلومِ النافعةِ قراءةً وكتابةً، ومن سيرهم في ذلك  ما ذكر عن الحافظ الخطيبُ البغداديُّ -رحمه الله- أنه كان يمشي وفي يدِهِ جُزْءٌ يُطالِعُه، وكان العلاَّمةُ النَّحْويُّ أبو بكرٍ محمَّدُ بن أحمدَ الخيّاطُ -رحمه الله- يَقرأُ جميعَ أوقاتِهِ، حتى في الطَّريق، وكان ربَّما سقَط في حُفْرَةٍ أو خَبَطَتْهُ دابَّة!، وكان ابنُ الجوزيِّ -رحمه الله- لا يُضِيِّعُ من زمانه شيئًا، قال رحمه الله: ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب" ، وهذا الإمامُ ابنُ القيِّم -رحمه الله- ألَّفَ كتابَهُ المشهورَ: "زادَ المعاد في هديِ خيرِ العباد" وهو على سَفَر، ومعلومٌ لنا جميعاً: تلك المشقّةُ التي كان الأوَّلونَ يعانون منها في أسفارهم.

وكانوا يفرحونَ باقتناءِ الكتبِ ومطالعَتِها، يقول الحافظُ ابنُ الجوزيِّ: وإنِّي أُخْبِرُ عن حالي: ما أشبعُ من مطالعةِ الكُتُب، وإذا رأيتُ كتابًا لم أَرَهُ، فكأنِّي وقعتُ على كَنْزٍ.

فانظُرُوا كيفَ أثْمَرَتْ قراءتُهُمْ علماً نافعاً، وجُهداً رائعاً، سجَّلُوهُ فِي كُتُبِهِمْ ومصنفاتِهِمْ ومُؤلفاتِهِمْ.

أيهَا المؤمنونَ: لقد اشتغل بعض المثقفين بالقراءة، ولكنها في الحقيقة لا تسمن ولا تغني شيئا، إما قراءة الصحف والمجلات أو الروايات والقصص المترجمة، أو متابعة ما يكتب في المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي وغير ذلك ، وهذا قد تحصل منه فائدة ولكنها ليست هي المرجوة، بل لا بد أن تكون قراءتك انتقائية فتنتقي ما تقرؤه كما تنتقي طيب الطعام. 

عباد الله : لأجل أهمية القراءة أَطَلَقَ صَاحِبُ السُّمُوِّ الشَّيْخُ محمد بن راشد آل مكتوم، نَائِبُ رَئِيسِ الدَّوْلَةِ رَئِيسُ مَجْلِسِ الوزراءِ حَاكِمُ دبي أَكْبَرَ مَشْرُوعٍ عَرَبِيٍّ لِتَشْجِيعِ الْقِرَاءَةِ لَدَى الطُّلاَّبِ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ بِعُنْوَانِ "تَحَدِّي الْقِرَاءَةِ الْعَرَبِي" يَهْدِفُ إِلَى إِبْرَازِ جِيلٍ مُتَفَوِّقٍ فِي مَجَالِ الاِطِّلاَعِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْمَعْرِفَةِ. فَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَغْرِسَ فِي نُفُوسِ أَبْنَائِنَا وَطُلاَّبِنَا الرَّغْبَةَ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْمُطَالَعَةِ، فَفِي ذَلِكَ غَرْسٌ لأُسُسِ التَّقَدُّمِ وَالتَّفَوُّقِ الْعِلْمِيِّ وَالْحَضَارِيِّ لِبُلْدَانِنَا، وَبِنَاءُ أَجْيَالٍ مُحِبَّةٍ لِلْقِرَاءَةِ، شَغُوفَةٍ بِالْبَحْثِ وَالاِطَّلاَعِ

فاجتهدُوا عبادَ اللهِ فِي الإقبالِ علَى قراءةِ كُلِّ علمٍ مُفيدٍ، وشجِّعُوا أبناءَكُمْ علَى مُطالعةِ كُلِّ نافعٍ وجديدٍ، وتخصيصِ ساعاتٍ يوميةٍ، وأوقاتٍ أسبوعيةٍ للقراءةِ.

هناك تعليق واحد: